الخليج العربي، بين مصارع الاستدانة وتسييل الأصول

لعل أكثر ما يلفت الانتباه في الآونة الأخيرة، توجه بعض حكومات الخليج العربية إلى الاستدانة، أو رفع سقف دينها. ولا شك أن هذا التوجه نابع...

لعل أكثر ما يلفت الانتباه في الآونة الأخيرة، توجه بعض حكومات الخليج العربية إلى الاستدانة، أو رفع سقف دينها. ولا شك أن هذا التوجه نابع من سياسات نقدية مختلفة، لا تتشابه في وجهتها النهائية إلا في الاقتراض، وذلك بغية تطبيق آليات عمل تختلف في مسارها عن نظيراتها في دول الخليج العربية الأخرى.

ومن هنا، يصدح الرأي العام -غير الموجه إعلاميًا- إلى إبراز السلبيات التابعة لخطوة الاستدانة، على مستوى حياة الفرد، وكيف تتعدى الآثار السلبية لتلك الخطوة حدوده، لتبلغ مستوى الدولة ككل.

من هذا المنطلق، آثرت شرح ماهية الاستدانة كمفهوم، واستعراض تطبيقات هذه الأداة الاقتصادية؛ لنتمكن من إدراك وجهتها الحقيقية، ونميز متى تحقق الاستدانة نتائج إيجابية سواء على مستوى الفرد أو الدولة، والتطبيقات التي تصنع سلبية تلك النتائج على المستويين سالفي الذكر.

الاستدانة في حقبة المال السلعي

من المهم أن ندرك جوهر المفارقة بين الاستدانة في حقبة «المال السلعي»، والذي عُمل به منذ مئات السنين إلى عام 1971، ونظيرها في حقبة «المال الورقي» القائم حتى يومنا هذا.

إن مفهوم المال السلعي معني بالتفسير الذي ينص أن قيمة العملة تقوم على حجم المطبوع منها، مقابل كمية المخزون من سلعة طبيعية المنشأ، كالذهب أو الفضة أو النحاس.

وكنتيجة لشبه ثبات حجم الموارد الطبيعية مقابل الارتفاع في عدد الأفراد في المجتمعات، نجد أن أسعار المنتجات تنخفض كلما ارتفعت كمية الإنتاج. ولكن، تتطلب كمية الإنتاج تلك رؤوس أموال متينة، قادرة على تحقيق ذلك الارتفاع. ومن هنا بالضبط يبرز دور الاستدانة.

وتبعًا لذلك، تظهر ديناميكية الربحية والفائدة لدى أصحاب رؤوس الأموال التي بدأت معها حقبة «المال الورقي». فمن حيث المبدأ، وجب عليهم إقراض العامة لزيادة الإنتاج، بغية خفض الأسعار في الفترة التي يُسدد فيها أصل الدين. فتكون الفائدة الواجب أخذها بعين الاعتبار انخفاضَ قيمة السلع مقابل مبلغ ثابت نتيجة لزيادة معدل الإنتاج في المجتمع؛ أي أنها ليست مبلغًا إضافيًا يعود على أصل الدين.

وفي حال توقف أصحاب رؤوس الأموال عن إقراض العامة، لن ترتفع كمية الإنتاج، وبالتالي لن تنخفض الأسعار، ولن تتحقق تلك الفائدة المرجوة لأصحاب رؤوس الأموال.

وبناء على الممارسات في تلك الفترة، وقع على عاتق المقرض وجوب دراسة جدوى إقراضه، من خلال دراسة إمكانية المقترض من استخدام أصل الدَّين -الذي لا فائدة عليه- في زيادة الإنتاجية داخل المجتمع، وقدرة تلك الإنتاجية على سد ما تبقى من أصل الدين في كل شهر.

وعليه، نستنتج أن الاقتراض للاستهلاك أمر صعب المنال، ويكمن السبب في انعدام الجدوى بالنسبة للمقرض، إن لم يعتد بخيار الفائدة المضافة على أصل الدين.

الاستدانة في حقبة المال الورقي

أما اليوم، فيختلف «المال الورقي» اختلافًا كليًا عما كان عليه في السابق، إذ تستمد عملة اليوم قيمتها من عوامل مختلفة، إما من خلال مؤشرات العرض والطلب عليها، ومثالًا ذلك الدولار الأميركي والجنيه المصري بعد التعويم.

أو من خلال كمية المطبوع منها مقابل المخزون من عملة أخرى -أو مجموعة عملات أخرى- قائمة على العرض والطلب، كحالة الريال السعودي والدينار الكويتي. أو من خلال هاتين الآليتين في آن واحد، كما هو حال الجنيه المصري قبل التعويم.

وبهذا النموذج، وبُغية تحفيز الإنتاجية والإقراض، وعدم حفظ الأموال في انتظار انخفاض قيمة السلع، عُزز مفهوم الفائدة المرتبطة بالقيمة الزمنية للمال.

وعليه، نتذكر المقولة الشهيرة في مفهوم قيمة النقود الزمنية والمرتبطة بهذا الشأن: «دينار اليوم أغلى من دينار باكر». والمقصد منها أن القدرة الشرائية للعملة اليوم أعلى من نظيرتها بعد سنوات أمام السلع نفسها. وقد يكون ارتفاع سعر السيارات على مدى السنوات العشر الأخيرة خير مثال عابر يمكننا الاستدلال به.

حيث ترتفع الفائدة التي يحددها البنك المركزي -وتنخفض- بهدف الحفاظ على معدل تضخم ثابت وصحي، لا على مستوى المنطق العام، بل على مستوى منطق نموذج المال الورقي القائم.

فمتى ما ارتفع التضخم، أي ارتفعت الأسعار نتيجة زيادة المعروض النقدي لدى عامة أفراد المجتمع، يتوجه البنك المركزي إلى رفع قيمة الفائدة لترتفع كلفة الديون، وترتفع كذلك فوائد الودائع، ومعدل المودعين. لينخفض معدل المعروض النقدي، وينخفض من هناك الطلب على السلع والخدمات. وبذلك، تعود الأسعار لمعدلها المعقول مقارنة بأسعارها في اقتصادات أخرى متقدمة.

جدوى الإقراض في حقبة المال الورقي

لا تقوم جدوى الإقراض هنا -بالنسبة للمقرض والمقترض- على الإنتاجية، بل ترتبط بالقدرة على سد أصل الدين والفائدة المستمرة على مقدار ما لم يتم سداده من أصل الدين بالتناقص.

ندرك إذن أن ديناميكية الربحية تختلف جذريًا عن نظيرتها في حقبة «المال السلعي»، إذ أنها مرتبطة ارتباطًا وطيدًا بقيمة الفائدة أولًا، وقيمة الأصول ثانيًا.

وعليه، من البديهي ظهور ممارسات سلبية في آليات الاقتراض، ويرجع السبب في ذلك إلى غياب حاجة المقرض لتأكيد ربحية المقترض. وتأتي الحاجة في تأكيد قدرته على السداد وتحمل مقدار الفائدة كلما تأخر عن ذلك. وبذلك، تنحصر السلبية على المقترض الاستهلاكي وحسب، لا على المقرض.

حكومات الخليج والاستدانة: الكويت نموذجًا

لم تكن أزمة كورونا السبب وراء نفاد صندوق «الاحتياطي العام»، إذ سرّع دورها العملية فقط. أما السبب الفعلي لنفاده، فينحصر في انعدام جدوى نموذج اقتصاد الدولة القائم على أساس ارتفاع أسي في قيمة المصروفات، مقابل شبه ثبات الإيرادات القائمة على مصدر دخل واحد، وهو النفط.

ونظرًا لانخفاض الإيرادات النفطية خلال السنوات الخمس الماضية، أدى عجز الميزانية العامة للدولة إلى استنزاف كل ما تبقى من صندوق «الاحتياطي العام». واليوم تقف الكويت أمام مفترق البدائل لسد ذلك العجز الاستهلاكي، إما من خلال الاستدانة، أو السحب من صندوق «احتياطي الأجيال القادمة»، الذي يعد أحد أكبر الصناديق السيادية في العالم؛ أو أن تتجه لخفض قيمة العملة مقابل الدولار الأميركي.

ومن الناحية الأخرى، توجه «صندوق الاستثمارات العامة» إلى الاستدانة بدافع الاستثمار، بآلية مدركة لقواعد لعبة «المال الورقي»، بحيث تُهيّأ الاستدانة بناء على قيمة الأصول المملوكة وفائدة الاستدانة.

والجدير بالذكر أن ما يحصل في جبهة اتخاذ القرار الاستثماري والتمويلي في «صندوق الاستثمارات العامة» يقوم على منهجيات المحاسبة الإدارية وإدارة المخاطر والتمويل. حيث تُدرس كل الفرضيات بجميع تفرعاتها، ويُأخذ تحليل التكاليف والفوائد لكل فرضية، وكذا اختيار الفرضية المحققة لأقل كلفة وأعلى عائد، نسبيًا، بعين الحسبان.

الاستثمار في ظل أزمة كورونا 

لا شك أن لأزمة كورونا وإجراءاتها الاحترازية دور أساسي في خفض معدل الاستهلاك العالمي، الأمر الذي ساهم في خفض قيمة جميع الأصول القائمة على هذا الاستهلاك مؤقتًا، إلى أن تنتهي هذه الفترة الحرجة، فتعود قيمة الأصول إلى ما كانت عليه في السابق.

ومن هنا، تظهر فرصة الاستثمار في الأصول التي تُنبئ بارتفاع قيمتها بعد الجائحة. ولا يجب أن يكون غياب سيولة الاستثمار عائقًا لذلك، طالما أتيحت فرصة الاقتراض بفائدة أدنى من معدل ارتفاع قيمة الأصول، عند انتهاء فترة سداد أصل الدين وفوائده.

ويبقى خيار التوجه إلى بيع أصول بقيمة متدنية بغية الاستثمار بأصول قابلة للارتفاع خيارًا خاطئًا، خصوصًا في غياب عميق بحثٍ ودراية بما إذا كانت العوائد ستكون أعلى من ارتفاع قيمة الأصول المباعة بعد الجائحة.

ليس ذلك وحسب، إذ يتعين علينا أيضًا اعتبار كلفة الفرصة البديلة وإضافتها، أي الفرق بين العوائد أعلاه والفائدة المحققة في حال لم تباع تلك الأصول. حيث يُستدان بغرض الاستثمار من الأصول القابلة للارتفاع، لتساوي كلفة الفرصة البديلة قيمة ارتفاع الأصول منقوصًا منها قيمة الفائدة، وهلم جرًا.

الاستدانة سلاح ذو حدين

الاستدانة هنا إذن سلاح ذو حدين. إذ من السهل تحقيق الربحية متى ما جاءت بدافع الاستثمار، لا سيما إذا ما قامت آلية اتخاذ القرار على دراسة حقيقية ومهنية. أما في حال أتت الاستدانة بدافع الاستهلاك، فهي بلا شك لا تأتي إلا بالنتائج السلبية.

ومن هنا نعود لحالة الكويت، فعلى الرغم من أن الاستدانة ستكون استهلاكية، إلا إنها الأقل ضررًا من البدائل الأخرى، خاصة في فترة الجائحة التي تنخفض فيها الأصول في صندوق «احتياطي الأجيال القادمة».

وتكمن حلول الكويت في الاستدانة المؤقتة على اشتراط تزامنها مع إصلاح حقيقي وحازم في نموذج اقتصاد الدولة. وذلك من خلال تمرير تشريعات اقتصادية شاملة، وتفعيلها بأسرع وقت ممكن. لتكون قادرة على التهام جميع عقبات الاقتصاد الجزئي والسلوك التنظيمي بشكل متكامل وفعلي.

بذلك، ندرك أن التوجه للاستدانة دائمًا ما ينبع من سياسات نقدية مختلفة، لا تتشابه إلا في وجهتها النهائية إلى الاقتراض وحسب. وتحقق نتائج إيجابية، ما إن تقم على سياسات استثمارية حصيفة قادرة على إدراك قواعد اللعبة. ولا تحقق خيارات الاستدانة الأخرى القاصرة على إدراك قواعد اللعبة إلا كلفة سلبية على متخذ القرار، نتيجة لسوء تلك السياسات المعتبرة للاستهلاكية.

الاستثمارالاستدامةالاستهلاكيةالاقتراضالرأسماليةالسلطة
المقالات العامة
المقالات العامة
منثمانيةثمانية