كيف كبل نمط الإنتاج الاستعماري الاقتصاد الفلسطيني؟

كيف أحكم نمط الإنتاج الاستعماري قبضته على الاقتصاد الفلسطيني؟ وهل يجدي الحل الاقتصادي أو الاستثماري في فكفكة الصراع وحل السلام بين...

مطلع كل ديسمبر، يستحضر العالم الذكرى الثالثة والثلاثين لاندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى، المعروفة بانتفاضة الحجارة.

اندلعت الانتفاضة في الثامن من ديسمبر 1987، إبان دهس سائق إسرائيلي لأربعة عمال فلسطينيين شمال قطاع غزة. وأعقب ذلك موجة غضب فلسطينية ومواجهات دامية بينها وبين الجيش الإسرائيلي، رد فيها الجيش على الحجارة بشكل أعنف وأشرس تحت شعار «تكسير العظام»، في عهد إسحاق رابين الذي تسلّم جائزة نوبل للسلام إلى جانب ياسر عرفات وشمعون بيريز عام 1994.

وفي ظل جائحة كورونا التي كشفت هشاشة البنى الاقتصادية عالميًا، كان لزامًا أن نتساءل: كيف أحكم نمط الإنتاج الاستعماري قبضته على الاقتصاد الفلسطيني؟ وهل  يجدي الحل الاقتصادي أو الاستثماري في فكفكة الصراع وحل السلام بين الكيان المحتل والشعوب العربية؟ 

في هذا المقال، نحاول تسليط الضوء على بعض التحولات التي شهدها الاقتصاد الفلسطيني تاريخيًا، وكيف انتقل إلى اقتصاد معتمد بشكل كبير على المعونات الدولية والاقتصادية. كذلك نحاول الإجابة على جدوى الاستثمار في الأراضي الفلسطينية، أو ما سماه شمعون بيريز «أطروحة السلام الاقتصادي» في كتاب الشرق الاوسط الجديد. كما سنعرج على الحلول المقترحة لتغيير هذا الشكل الاقتصادي الذي بات عمود الاقتصاد الفلسطيني.

الاقتصاد الفلسطيني قبل الانتداب البريطاني ونمط الإنتاج الاستعماري 

تصدِّر الرواية الصهيونية أسطورة مفادها أن العرب، على خلاف الأوربيين، لم يكونوا شعبًا مثقفًا ومنتجًا، ويشوب هذا الادعاء الكثير من المغالطات. فقد عرفت فلسطين تاريخيًا بثراءها العلمي والاقتصادي المتين المعتمد على الفلاحة. إذ عنون غسان كنفاني روايته «أرض البرتقال الحزين» بهذا الاسم لأن فلسطين عُرفت بتصديرها البرتقال إلى أوربا في القرن الثامن عشر، بالإضافة إلى صابون نابلس وقطن الجليل اللذين سوّقا للأوربيين كذلك في تلك الحقبة. 

ومع انتهاء الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية، استبدلت هذه الأخيرة على فلسطين بالانتداب البريطاني؛ لتبدأ تدريجيًّا سلسلة من التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. إذ لم يمنح وعد بلفور الفلسطينيين سوى الحقوق الدينية والمدنية، بينما منح المجتمع اليهودي -الذي سُهلت هجرته لفلسطين- حقًا سياسيًا وقوميًا ووعدًا بـ«وطنٍ» على أرض فلسطين. 

وعلى أية حال، بدأت علامات تحول المجتمع الفلسطيني من مجتمع ريفي إلى مجتمع صناعي-عقاري بعد النكبة. حيث تمكن الاحتلال الإسرائيلي من مد سيطرته على القطاع الزراعي، بعد استلاب الأراضي اعتمادًا على قانون أملاك الغائبين. فانصهرت شريحة كبيرة من القوى العمالية الفلسطينية في أنشطة الاحتلال الإسرائيلي الاقتصادية، وتحديدًا في قطاع البناء والمقاولات.

طبيعة نظام الإنتاج الاستعماري

إن الطبيعة التي يقوم عليها نمط الإنتاج في الدولة الصهيونية، ما هي إلا انعكاس لنظامها السياسي، الذي يصفه أورن يفتاتشيل في كتابه «الإثنوقراطية سياسات الأرض والهوية في إسرائيل/فلسطين» بالنظام الإثنوقراطي (Ethnocracy). فإلى جانب تمسكها بجوانب ديمقراطية، تنتج الدولة سياسات تميّز فيها بين المواطنين حسب أصولهم الإثنية. وأكيدٌ أن هذا المنطق الإثني يهيمن على حركة رأس المال. 

ويتحرك منطق رأس المال الإثني بعاملين: فصل سوق العمل والأنشطة التنموية الإثنية من جهة، والاستفادة من النظام الرأسمالي المعولم المعتمد على توسع الاقتصاديات والأسواق الخارجية الصابة في تشكيل رأس المال الإثني، من جهة أخرى. وتضيف الباحثة وأستاذة العلوم السياسية بجامعة ماساتشوسيتس، ليلى فرسخ، أن ما يجعل الاقتصاد الإسرائيلي استعماريًا حتى يومنا هذا، اعتماده على سلب الأراضي والتحكم الديموغرافي والاستغلال الهيكلي للعمال كقوة لفرض الهيمنة.

دور الاتفاقيات والضغوط الدولية في تقويض الاقتصاد الفلسطيني

ترافق ذكرى الانتفاضة ذكرى صدور القرارات الأممية رقم 181 المعروفة بقرار التقسيم، وقرار مجلس الأمن رقم 242 والمسمى «الأرض مقابل السلام»، الداعي  للانسحاب من الأراضي المحتلة ووضع المعادلة اللّازمة لحل السلام في المنطقة بين الدول العربية والكيان المحتل.

وعند النظر لقرار التقسيم رقم 181، يتضح أن إسرائيل قبلت به كإجراء استراتيجي للتوسع مستقبلًا، مما يعني توسع هيمنتها الاقتصادية. وهذا بلسان بن قورين الذي أكد ذلك في اجتماعه مع قيادات صهيونية

قبول دولة يهودية جزئية ليس الغاية، بل البداية فقط. فإنشاء مثل هذه الدولة اليهودية سيكون بمثابة وسيلة في جهودنا التاريخية لاسترداد البلد بأكمله […] سننظم قوة دفاع حديثة […] وبعد ذلك، أنا على يقين أننا لن نُمنع من الاستقرار في أجزاء أخرى من البلاد، سواء بالاتفاق المتبادل مع جيراننا العرب أو بأي وسيلة أخرى […] سنطرد العرب ونأخذ أماكنهم […] بالقوة.

وأضاف في قبوله للتقسيم في إحدى الاجتماعات مع القيادات الصهيونية، «أنا أفضل تقسيم البلاد لأننا عندما نصبح قوة قوية بعد قيام الدولة، سنلغي التقسيم وننتشر في كل فلسطين.» أدرك الفلسطينيون والعرب وقتها أن قبول إسرائيل ليس إلا البداية لمشروعها الاستعماري. أما القرار رقم 242، فلم يأت على ذكر الفلسطينين أبدًا ولم يضمن القرار 194 حق العودة.

قد تكون أهم مخرجات هذه الاتفاقيات تحويل الصراع مع المحتل من صراع حق تقرير المصير إلى صراع على الدولانية -الحصول على الدولة- بأي طريقة. فتحوّل الخطاب العربي والفلسطيني الرسمي الذي كان يطالب بتحرير الأرض -كل الأرض من البحر إلى النهر وكفالة حق العودة للاجئين– إلى الرضى بالموجود والتعامل مع الأراضي الفلسطينية المتبقية الأشبه بانتوستانات (Bantustan)، والذي يصعّب من إمكانية تشكيل دولة مستقلة ذات اقتصاد قويّ. 

مآلات أوسلو: نكبة مستمرة 

نشأت السلطة الفلسطينية من خلال اتفاقيات أوسلو الموقعة بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في الفترة ما بين 1993 و1995، والتي مكّنت إسرائيل من سرقة الأراضي الفلسطينية دون مواجهة أي تحدٍ فعال.

ودعت مفاوضات أوسلو إلى اعتراف متبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، وتحديد فترة انتقالية مدتها خمس سنوات تسحب خلالها إسرائيل قواتها وهياكلها الإدارية من التجمعات السكانية الفلسطينية الرئيسة تدريجيًا، وإقامة السلطة الفلسطينية والحكومة الفلسطينية المؤقتة حتى قيام الدولة المستقلة.

وتكمن أهمية الاتفاقية في تشكيلها منعطفًا مهمًا في الدبلوماسية الفلسطينية. فبينما كانت منظمة التحرير الفلسطينية من أنصار التحرير الكامل لفلسطين، شهدت أواخر الستينيات تحولًا دبلوماسيًا، حيث أبدت استعدادها لقبول حل الدولتين.

وهذا ما أعلنه ياسر عرفات في عام 1988، مع تنديده بالإرهاب وقبوله قراري الأمم المتحدة 242 و338. كما وعد عرفات بإنهاء العنف ضد إسرائيل في الأراضي المحتلة والتعاون المباشر مع قوات الأمن الإسرائيلي. 

كانت النتائج المتوقعة للفترة الانتقالية تسوية دائمة على أساس قراري مجلس الأمن 242 و338 المطالبين بانسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي التي احتلتها عام 1967. لكن المشكلة الكبيرة في اتفاقية أوسلو أنها لم تعد بدولة فلسطينية مستقلة أو حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وهي أهم قضايا الصراع.

حيث أُجّلت خمس قضايا إلى تسوية نهائية عام 1999: حق العودة للاجئين والاستيطان الإسرائيلي وترسيم الحدود وموضوع القدس والمياه. كما لم يُطلب من إسرائيل وقف بناء المستوطنات التي ستعرض جدوى قيام الدولة الفلسطينية للخطر. 

وبينما اعتمدت العلاقة الاقتصادية في البداية على اليد العاملة الفلسطينية الرخيصة والمنتجة (labor intensive)، مقابل اقتصاد استعماري مصدّر ومنتج لرأس المال (capital intensive)؛ مهدت الاتفاقيتان الطريق لإسرائيل لبلوغ أسواق جديدة وبشروط أكثر مناسبة لها.

إذ أصبحت الآن غير ملزمة حتى بالعمالة، بل أخذت في التحكم بحركة العمال عن طريق الجدار الفاصل وسياسة المعابر ونقاط التفتيش وإصدار رخص العمل. لم تُعن اتفاقيتا أوسلو بإنهاء الصراع، بل كانتا إطارًا لما سيتم التفاوض عليه بموجب الشروط الإسرائيلية.

اتفاقية باريس 1994

وبين اتفاقيتي أوسلو، أتت اتفاقية باريس 1994 لتخول إسرائيل نظاميًا بالتحكم في الإيرادات الضريبية والأموال المتدفقة للأراضي الفلسطينية. وعلى الرغم من أن الاتفاقية وقعت لتسري فعاليتها لخمس سنوات فحسب -محددة بالمدة الزمنية بين اتفاقيتي أوسلو- لا تزال الاتفاقية ملزمة قانونيًا حتى اللحظة. 

نص بروتوكول باريس لعام 1994 على تحصيل  إسرائيل الرسوم الجمركية والضرائب على البضائع المستوردة إلى الضفة الغربية وقطاع غزة عبر إسرائيل. ثم تحويل هذه الإيرادات إلى السلطة الفلسطينية التي تعتمد عليها بشكل كبير. ونتيجة لذلك، ظل الاقتصاد الفلسطيني رهينة الاحتلال الإسرائيلي، الذي تمكن من استغلال السلطة الفلسطينية لتحقيق مكاسب سياسية.

ومن الآثار التي أنتجتها هذه الاتفاقيات تحت مظلة أوسلو، توفير مستنبت خصب لنمو وتشكل البورجوازية الفلسطينية الجديدة التي تطوّع القوانين الاقتصادية بما يخدم مصالحها. مما يعني تصالحها مع الاحتلال الإسرائيلي وتشاركها معه في سبيل تعظيم الأرباح والاستثمار الرأسمالي.

ويمثل مشروع مدينة روابي مثالًا صارخًا للمشاريع التطبيعية بصبغة نيوليبرالية في الأراضي الفلسطينية. ففي هذه المدينة، تتوسع أنشطة الشركات الإسرائيلية التكنولوجية التي توظف الشباب الفلسطيني بأجور أرخص من نظرائهم الإسرائيليين، لتحقق أكبر هامش ربحي ممكن. كما تفيد النشاطات التكنولوجية لهذه الشركات في دعم جيش الاحتلال الاسرائيلي؛ فكثيرٌ من ضباطه وقادته يملكون بعض هذه الشركات

يدعي مالك مشروع الروابي الملياردير الفلسطيني الأميركي بشار المصري رغبته في ضمان عيش الفلسطينيين بشكل «طبيعي»، متناسيًا حقيقة رزخهم تحت رحمة كيان استعماري. ففي هذه المدينة أيضًا، تكثر الأنشطة الثقافية والحفلات الغنائية والأسواق التجارية بهدف جذب طبقة شباب «كوزموبوليتي» لا يرى في الاحتلال حالًا غير طبيعي.

ويطابق الوضع ما رصده  فرانز فانون في كتابه «معذبو الأرض»، حينما قسم العالم الاستعماري إلى قسمين: المُستَعمِر الذي تُهذّبه الرأسمالية ويفرض رؤيته الكونية للعالم بفوقيته وحضارته، والمُستعمَر الذي يهذّبه المُستعمِر بأيدولوجيتها ورأس المال الاستعماري.

هيمنة الاحتلال على الاقتصاد الفلسطيني

كانت الترتيبات الخاصة بالتعاون الأمني ​​هدية كبيرة بشكل خاص لإسرائيل. فمن خلال هذا الإعداد، تقدم السلطة الفلسطينية معلومات لإسرائيل عن الفلسطينيين الذين يقاومون الاحتلال.

ونتيجة لاتفاقيتي أوسلو ومبدأ «فرق تسد»، نجح الاحتلال في فرض مفاهيمه الاستعمارية والسيطرة على الأرض وتقسيم الأراضي الفلسطينية -كما ورد في اتفاقية 1995- لثلاث مناطق: منطقة تخضع للسيطرة الأمنية والمدنية الفلسطينية وتشكل 18% من الأراضي الفلسطينية، ومنطقة تغطي 21% من الأراضي، وتخضع لسيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية إسرائيلية؛ وتغطي المنطقة الأكبر 60% من الأراضي تحت سلطة أمنية ومدنية إسرائيلية.

اقتضت الخطة أن تنتقل السيطرة بالكامل بحلول عام 1997 للسلطة الفلسطينية، لكن هذا لم يحدث. فبهذا يتحكم المحتل بجغرافيا الأراضي، مما يمكنه من الضبط الأمني والاقتصادي لحياة الفلسطينيين. حيث تمنح إسرائيل السلطة الفلسطينية سيطرة محدودة على الموارد الطبيعية والأراضي الزراعية، مع الاحتفاظ بالسيطرة على المعابر الحدودية.

العمال الفلسطينيون في الضفة الغربية / Ahmed AlBazz

كما وصف وكيل وزارة العمل الفلسطينية ناصر القطامي البيئة الفلسطينية الاقتصادية ببيئة «طاردة للاستثمار»، بسبب ممارسات الاحتلال الذي يسيطر على المعابر وتحكمه بحركة التصدير والاستيراد وحركة العمال الفلسطينيين الذين يعملون في إسرائيل وداخل الخط الأخضر الراسم لحدود ما قبل 1967.

والأهم من ذلك، هيمنة إسرائيل على البنى التحتية. إذ تصرف السلطة الفلسطينية الأموال القادمة من المنح والمعونات على الرواتب والخدمات الأساسية كالكهرباء والإنترنت والمياه من المحتل، فيتحول دورها إلى مقاول إنشائي. أما أموال المانحين، فتخضع لشروط الاحتلال، وإذا ما قررت قطع المعونات، فسيؤثر ذلك بشكل مباشر على حياة السكان في الضفة وقطاع غزة.

أوسلو وتراجع التنمية 

في تشريحها لاتفاقية أوسلو، تذكر الباحثة في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفارد والمتخصصة في الاقتصاد السياسي، سارا روي، أن عملية السلام في أوسلو مصممة «لتغيير المشهد السياسي والاقتصادي للأراضي الفلسطينية بطريقة أدت إلى تكثيف الحرمان والاضطهاد وسلب الأراضي من الفلسطينيين بدلًا من تخفيفها، وبالتالي حالت دون التوصل إلى تسوية عادلة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.» 

وتؤكد حتى في حال توصل الطرفان لاتفاق نهائي، تمكّن البنية التحتية لاتفاقيتي أوسلو إسرائيل من السيطرة على حياة الفلسطينيين وإبقاء الاحتلال واستمراره، وستبقى هاتان الاتفاقيتان الإطار الرسمي للمفاوضات المستقبلية.

وتضيف روي أن تبعية الاقتصاد الفلسطيني لإسرائيل التي سببتها أوسلو، والاعتماد على المصادر والقنوات الخارجية كالمعونات والمساعدات، يقع ضمن عملية «تراجع التنمية» (de-development) التي يعيشها الفلسطينيون حتى اليوم.

الاقتصاد الفلسطيني، اقتصاد مٌعتمد على المعونات 

أنتجت لنا أوسلو سلطة بلا سيادة، ترفع وتخفف أعباء إسرائيل الاقتصادية، مسخرة لخدمتها طاقات الشعب الفلسطيني. إذ يرزح الاقتصاد الفلسطيني الآن تحت نير تبعية شبه كاملة للاقتصاد الإسرائيلي، الذي يعمل أقطابه على إلحاق أكبر الضرر به لإبقائه تحت رحمته. وتصب كل مبادرات السلام الاقتصادي وتنمية الاقتصاد المحلي الفلسطيني في مصلحة الكيان المحتل المهيمن على الأنشطة الاقتصادية بسبب صلاحياته.

إذ يعد نموذج أوسلو الاقتصادي إحدى توصيات البنك الدولي عام 1993 تحت شعار «الاستثمار في السلام» ذي الطابع النيوليبرالي؛ وتحت مظلة ما يعرف بسياسات «إجماع واشنطن» التي تطابق بشكل كبير خطة ترمب وكوشنير المعروفة باسم بصفقة القرن.

وكما يوضح الباحث علاء الترتير، فإن الخطة كانت تستدعي «تحقيق ذلك بواسطة بناء المؤسسات وتشجيع الأسواق المفتوحة والحرة والتجارة والاستثمار والتحرير المالي والنهوض بالحكم الرشيد والتكامل الاقتصادي الإقليمي. وشجعت كذلك على التكامل الاقتصادي مع إسرائيل، بينما كان يُفترض بها أن تهيئ الفلسطينيين للاستقلال» طبق تعزيز التكامل مع الاقتصاد الإسرائيلي كأحد إلزامات اتفاقية باريس 1994، والتي أسست اتحادًا جمركيًا تطبق فيه السلطة السياسيات المالية والتجارية.

ويؤكد الترتير أن رؤوس الأموال والمنح والمعونات تمر من خلال هذه اللجان الإسرائيلية التي تضبط وتتحكم بحركة هذه الأموال. فمن صالح إسرائيل التي استغلت اتفاقيات أوسلو باستحكام الاقتصاد الفلسطيني رهينة المعونات وإدخاله في دائرة من الاستدانة الدائمة، واستخدام هذه الأموال في سداد الدين العام ورفع رواتب الموظفين؛ بالإضافة بتسديد فاتورة الخدمات لهذا الكيان الاستعماري، دون الوصول لاقتصاد منتج.

وبالتالي لم تجلب هذه المعونات لا ثمار السلام ولا التنمية أو الأمن للشعب الفلسطيني، ناهيك عن العدالة.

ما هي السبل البديلة للمقاومة الاقتصادية؟ 

تعدّ الزراعة أقدم أشكال الإنتاج الاقتصادي الفلسطيني المرتبط  مباشرة  بالأرض ورمزيتها. وقد تكون العودة لتحرير هذا القطاع وتحويره كمعقل تحريري للمقاومة الاقتصادية عملًا تحرريًا في الداخل. إذ عرفت فلسطين بغلات البرتقال والزيتون والتمور المتجذرة في الذاكرة الجمعية الوطنية الفلسطينية، فصار غصن الزيتون رمزًا للنضال الفلسطيني.  

وعلى الصعيد الدبلوماسي، لابد من إحياء منظمة التحرير الفلسطينية كالممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، واشراك القيادات الشابة فيه لصناعة استراتيجية تحرر وطني جديدة في القرن الواحد والعشرين، تأخذ على عاتقها سبلًا جديدة لضمان جميع حقوق الشعب الفلسطيني: الحق في تقرير المصير وتحرير الأرض من الاحتلال وبناء دولة ديمقراطية مستقلة.

المقاطعة والسيطرة على حياة الفلسطينيين 

يحتاج نظام غير مستقر كإسرائيل لتنويع سلته من رأس المال الأجنبي. إذ تعد المظلة الاقتصادية غطاءً لفتح الأراضي العربية للأنشطة الإسرائيلية، واستهداف الذات العربية نفسيًا وشعبيًا لتطبيع الاستسلام، في مقابل مبادئ الشعوب المقاومة. وتقبع خطورة الكيان لا في شراء سلعة ما أو منتج تقني يخدم المستهلك العربي، بل في تشكل هذه الأرض كملعب  للنشاط الصهيوني. 

دفع تأثير حركة المقاطعة (BDS) بإسرائيل للتوسع في أسواق محيطة. إذ شنت إسرائيل في المقابل عدة حملات بروبقندا رسمية لتلميع صورتها، منها الغسيل الوردي (pinkwashing) والأخضر (greenwashing).

لتظهر معها كجنة للحريات الجندرية في جحيم الشرق الأوسط، وهي الدولة التي جعلت «الصحراء» تخضرّ لأن الأرض التي قامت عليها دولتهم كانت قاحلة بلا بشر يقطنونها، حسب روايتهم.

ورغم الكذبة نجحت الحركة، وهو ما يمكن الحكم عليه عن طريق قياس غضب المنظمات الموالية لإسرائيل، كرابطة مكافحة التشهير (ADL) التي أعدت قائمة أبجدية لجميع الجامعات التي نظرت أو صوتت في عام 2014 لتأييد حركة المقاطعة، كجزء من نشاط الرابطة المستمر ضد الحركة. 

تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية

وفي أعقاب حوار المنامة الذي نظمه المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في البحرين، ألقى الأمير تركي الفيصل كلمة تحدث فيها عن الأنشطة الاستعمارية التي تمارسها إسرائيل، واصفًا سياسات الفصل العنصري غير الديمقراطية المتبعة هناك بـ«آخر قوة للاستعمار غربي» في الشرق الأوسط. وأكد أن اتفاقيات التطبيع لا يمكنها «معالجة الجرح المفتوح بالمسكنات والمهدئات».

يعكس صوت الأمير تركي الفيصل صوت الغالبية العظمى من الشعب العربي، فإسرائيل قوة احتلال تملك من الجرأة ما يكفيها لتنفيذ خططها، وتدعمها في ذلك الحكومات الأميركية المتعاقبة. ولا يبدو أن بوادر السلام ممكنة، إلا إذا حُلّت هذه القضية العادلة. 

كما لا يمكن فهم أساسية وأهمية التضامن مع فلسطين. إلا من خلال استيعاب رمزية القضية. إذ يماثل القمع المسلط على الشعب الفلسطيني ذاك الذي عانته الشعوب ولا تزال في العالم كله. فنحن لا نتضامن لجمال الطبيعة وبحر يافا، بل لأن فلسطين قضية تشعل كل إنسان حر.

ويبقى التحدي الأكبر منذ بداية هذا الصراع، غياب مشروع تحرري موحد يمكن فلسطين من تشكيل استراتيجية تحرر وطني. تعالت أصوات تطالب بطرح حل قديم للساحة مجددًا وهو حل دولة ديمقراطية واحدة. ورغم أهمية هذا الصوت الدولي، يبقى الأهم الحراك المحلي لتشكيل استراتيجية وطنية تحريرية. 

إن أي حل لهذه القضية لن يكون إلا عبر إطار تفاوضي جديد ينهي الهيمنة الإسرائيلية، ويخوض في كل الملفات المعلقة كالمستوطنات وتقسيم القدس واللاجئين والحدود. والأهم من ذلك، أن تؤدي المفاوضات المستقبلية إلى الإنهاء الكامل للاحتلال الإسرائيلي، وتسفر عن دولة تضمن حقوق الفلسطينيين سواء أكان حل الدولتين أو حل الدولة الواحدة الديمقراطية. وأي مخرجات من أي مفاوضات مستقبلية أقل من هذه البنود مآلها الفشل. 

الاحتلال الإسرائيليالاستعمارالاقتصادالقضية الفلسطينيةالرأسماليةالسلطة
المقالات العامة
المقالات العامة
منثمانيةثمانية