فاجعة السلط ترمي بالأردن في بحرٍ من أسئلة بلا جواب
استقالات ومحاسبات سببتها فاجعة السلط في الأردن في محاولة لتدارك الأزمة، إلا أن المشكلة الكبرى هي التقصيرات والشكاوي التي لم تنل حقها.
مرَّ أسبوعٌ على الكارثة، مذ فُجعت سبعُ عائلات أردنية بانقطاع الأكسجين عن أبنائها داخل مستشفى السلط الحكومي، وصولًا إلى اختناق المحتجين بالغاز المسيل للدموع خارج أسوارها. العناوين الإخبارية كانت متخبطة في البداية، منها تقول تسع ضحايا، أو ستّ، لكن تلك ليست الحقيقة الوحيدة المُبهمة في هذه القضية، ولا التخبط الوحيد.
أحداث فاجعة انقطاع الأكسجين في السلط
في قسم العزل الخاص بمرضى كورونا، وتحديدًا في الطابق الثاني بمستشفى السلط الحكومي، حلَّت الفوضى. يوم السبت الثالث عشر من مارس، وفي ساعات الفجر الأولى، انطلقت تنبيهاتٌ عديدة من أجهزة المراقبة تُنذِر بانخفاض ضغط الأكسجين، ولاحظ المرافقون انخفاضًا حادًا ومفاجئًا في نسبة تشبع الأكسجين لدى مرضاهم.
أصبح نفاد خزان الأكسجين في المستشفى حقيقة مروعة لا يمكن تفاديها. استُدعي الدفاع المدني، وراح المرافقون يجرون اتصالاتٍ بحثًا عن أسطوانات أكسجين. الصراخ يدوي في ممرات المستشفى، بينما تركض الممرضات في محاولة يائسة لإنعاش مريضٍ توقف قلبه.
توالى الإعلان عن الوفيات داخل المستشفى. ومع حلول الصباح، كان مرافقو المرضى والعاملون في القسم، ومعهم عناصر الدفاع المدني، مرهقين حدَّ الإنهاك، بعد أن خسروا سباقهم مع الزمن سبع مراتٍ- على الأقل. إذ أعلنت السلطات الأردنية وفاة سبعة مرضى فقط، من أصل تسعة في اليوم ذاته، كوفيات ناتجة فعليًا عن انقطاع الأكسجين.
سرعان ما انطلق وسمٌ على تويتر، يسم الحادثة الطبية بالفاجعة. وسرعان ما تجمع المحتجون أمام المستشفى، مطالبين بمحاسبة المسؤولين عن انقطاع الأكسجين والذي دام لأكثر من ساعة.
خرج بعدها وزير الصحة الأردني، نذير عبيدات، ليعلن استقالته، مؤكدًا على أنّ «كل مقصّر سيُحاسب.» وفورًا أقيلَ مدير المستشفى، عبد الرزاق الخشمان، وأوقف -مع عاملين آخرين- بتهمة الـ«تسبب بالوفاة». عبّر كثرٌ عن أنّ تلك الإجراءات ليست كافية، معتبرين أنّ الأمر لا ينتهي لدى مدير المستشفى أو مساعديه، بل يمتد للمنظومة الصحية بأكملها.
للمفارقة، تتفق الحكومة مع ذلك، فصرَّح رئيسها أمام الجلسة الطارئة لمجلس النواب الأردني، أن ما حدث يحتاج إلى «ثورة إدارية» واسعة في مختلف القطاعات، مضيفًا أنّ الحكومة لديها خارطة طريق لتحقيق ذلك.
حتى الملك الأردني، عبدالله الثاني، وصل بنفسه إلى المستشفى، آمرًا بتشكيل لجنة طبية عسكرية للتحقيق في الحادثة. لم ينتهِ التحقيق بعد، إذ توجد احتمالية لوفيات أخرى -غير المعلن عنها- تسبب فيها انقطاع الأكسجين. وما زالت أسئلة كثيرة دون إجابة.
لماذا لم يستجِبْ الطاقم الطبي للتنبيهات المنذرة بانخفاض الأكسجين في الوقت المناسب؟ لماذا لم يكن لدى المستشفى مخزونٌ احتياطيٌّ كافٍ لحالة طارئة كهذه؟ هل سيتكرر هذا الفزع مجددًا، وفي مستشفيات أخرى؟
حالة الطوارئ الصحيّة والأمنية
بعد استقالة عبيدات، كلّف الديوان الملكي الأردني مازن الفراية، وزير الداخلية، بإدارة وزارة الصحة أيضًا، بدلًا من عبيدات. اختلطت المهمتان: الصحة والسيطرة الأمنية، وأصبحتا بيد رجلٍ واحد. وأمام المحتجين الغاضبين يوم الفاجعة، وقفَ رجال الأمن ليطوقوا مدخل المستشفى.
امتدت الاحتجاجات من أمام المستشفى في السلط إلى عدة أحياء في العاصمة عمّان، وإلى مدينة مادبا وإربد والكرك ومعان والعقبة. حصل ذلك على مدار الأيام القليلة التي تلت يوم الثالث عشر من مارس.
ورغم أنّ المحتجين لم يتجاوزوا العشرات في بعض المناطق، لم تختفِ قوات الأمن من أمامهم، وسَعَت إلى تفريق المحتجين. تارةً بفضّ الاعتصامات بالغاز المسيل للدموع، وتارةً أخرى باعتقال المحتجين، إذ زاد عددهم على تسعة وخمسين معتقلًا في الأيام الأربعة الأولى من المظاهرات.
اتخذ الأمن، بالأساس، «مخالفة أوامر الدفاع» ذريعةً لتلك الاعتقالات. إذ تجاوزت الاعتصامات ساعة الحظر الجزئي -الساعة السابعة مساءً- والذي فُرض في الأردن بموجب قانون الدفاع. فعَّل الأردن العمل بقانون الطوارئ الاستثنائي هذا منذ العام الماضي، مانحًا الحكومة صلاحيات واسعة للتعامل مع انتشار الوباء، ومن ضمنها فرض حظرٍ شامل إن أرادت.
تزامن الفاجعة مع الذكرى الأولى، العاشرة، المئوية
تزامنت فاجعة السلط مع الذكرى السنوية الأولى لانتشار فيروس كورونا، ومرور عامٍ كامل من إجراءات حكومية صارمة في الأردن بغية حصره. عبّر المتظاهرون عن نقمتهم على تلك الإجراءات، وطالبوا بإسقاط قانون الدفاع، زاعمين انتهاكه حقوقهم المدنية والسياسية، وتسببه بأزمةٍ اقتصادية عميقة، دون أن يؤدي فعليًا إلى نتائج مُرضية في السيطرة على الوباء، أو في توفير اللقاح.
يتزامن هذا الحدث أيضًا مع الذكرى العاشرة لـ«24 آذار»: الحراك الأردني عام 2011، الذي جاء متأثرًا بالاحتجاجات الشعبية في تونس في العام ذاته. أعيدت هذه الذكرى إلى الساحة، في تغريداتٍ على تويتر تحت وسم «قادمون 24 آذار»، وكذلك في بياناتٍ للأحزاب الأردنية. ليست لدى المحللين السياسيين صورة واضحة عمّا سينتج عن تلك البيانات والتغريدات، فلا يستطيع أحدٌ الجزم بأن أعدادًا كبيرة ستتجاوب معها.
ومع مطلع العام الجاري، 2021، بدأت المملكة الأردنية الهاشمية احتفالاتها بمئوية تأسيسها كدولةٍ حديثة. لم يكن أحدٌ يتوقع هذه الظروف الاستثنائية، ولا أنّ حدثًا كالذي جرى في مستشفى السلط سيعيد الناس للتفكير: كيف وصلنا إلى هنا؟
تزعزع الثقة في القطاع الصحي الحكومي
لم تصدر نتائج التحقيق بعد، لكن الحقيقة التي يتداولها مستخدمو التواصل الاجتماعي هي إمكانية تفادي الفاجعة. إذ كان من الممكن اكتشاف أحدهم الخلل قبل فوات الأوان، وكان بإمكانهم طلب كميات إضافية من الأكسجين قبل النفاد، والكثير غيرها من الاحتمالات التي لم تصمد أمام الحقيقة، آخذةً معها تسعة أشخاص.
كشفَ أحدُ الأطباء في مستشفى السلط أنّ أربعة ممرضين فقط كانوا يهتمون بأكثر من مئة وعشرين مصابًا بالكورونا. هذا شاهدٌ على شكوى متكررة بحق القطاع الصحي الحكومي، تراكمت مسبباتها وآثارها عبر العقود الماضية، ولم تكن حتمًا وليدة انتشار الوباء.
إنّ نقص الكوادر في تلك المستشفيات يعود لتسرّبٍ مستمرٍ للأطباء والممرضين نحو القطاع الخاص. إذ تقدّم لهم المستشفيات الخاصة رواتب مغرية، لا تستطيع الدولة ومستشفياتها العامة منافستها. وإذا نظرنا إلى موازنة الحكومة الأخيرة لعام 2021، فسنجد أنّ الحصّة المخصصة لوزارة الصحة لا تشكل سوى 7% منها.
في المقابل، تتوسع خصخصة الخدمات الصحية في الأردن منذ عقود، على اتساع «السوق»، وميل السياسات الأردنية الاقتصادية نحوه. أُنهِك بذلك القطاع العام، وتنحى جانبًا مع مرضاه، ليأخذ الربحُ دفّة الخدمات الصحية.
الفرق بين الكوادر في القطاعين الخاص والعام صادم. فرغم أن القطاع الخاص يضم 36% من الأسرّة في الأردن، إلا أنه يحوي ما يقارب 70% من الأطباء. كذلك حاولت وزارة الصحة الأردنية تخفيف العبء عن المستشفيات الحكومية التي تستقبل مرضى كورونا، فأنشأت مستشفيات ميدانية في عدّة مدن. إلّا أنها واجهت صعوبات في توفير الكوادر، ولم يلتحق عدد كافٍ من الأطباء والاختصاصيين بتلك المستشفيات الميدانية.
ضاعفت أزمة كورونا، وحادثة السلط كحدثٍ مفصلي، زعزعة الثقة في النظام الصحي بالذات. خاصة مع ارتفاع عدد الإصابات، وبلوغ نسبة الوفيات أكثر من الخُمس، ممن دخلوا المستشفيات في ذروة الموجة الأولى من الفيروس.
وضعت هذه الأزمة قطاع الصحة في العالم تحت المجهر، لا سيما في بدايتها. إذ لم تكن معظم البلاد مستعدة لاستقبال عددٍ كبير من المرضى في أقسام العناية الحثيثة، وبات شح أجهزة التنفس وقلّة الكوادر الطبية المدرّبة لاستخدامها أزمتيْن متكررتيْن.
لكن الآن، تكمن الخيبة في أن عامًا كاملاً قد مرّ، وما زالت التصريحات المقلقة تتوالى عن نِسب الإشغال العالية في أقسام العناية الحثيثة بالمستشفيات، ثم تحصل فاجعة كتلك التي في السلط.
حين حلّ الوباء قبل عام، كان الناسُ يعيشون في المجهول، يتحسسون طريقهم في الظلام. تقودهم الحكومات -غالبًا بقواتها الأمنية- نحو حلّ مرجو، تارة بفرض الحظر وتارة بفكّه. أو بمنع السلطات السفر، ثم السماح به ليعاد منعه مجددًا. Click To Tweet
الآن، بعد أشهر طوال من هذا التخبط، ووسط أزمةٍ اقتصاديةٍ خانقة، تعدّت مخاوف الناس التقاط العدوى. الرعب الحقيقي الذي باتوا يعيشونه في ظل الجائحة خسارتهم معيشتهم وأعمالهم دون أي تعويضات كافية، وخسارة أحبائهم على أسرّةِ مستشفيات يُفترض بهم أن يثقوا بها.