هل ينسجم «الإخوان المسلمون» مع التيارات الإسلامية في تركيا
يتتبع كامل الخطي ظهور الأحزاب الإسلامية السياسية في تركيا ومنح تراخيص تأسيسها، وكيف ينسجم الإخوان المسلمون مع هذه الأحزاب؟
يرجع إقران الدين الإسلامي ببعديه الرمزي والتشريعي في الحياة السياسية في تركيا إلى عهد السلطان سليم الأول الذي غزا القاهرة عام 1514. فكان أول السلاطين العثمانيين الذين أقرنوا السلطنة بالخلافة واتخذ لنفسه لقب «أمير المؤمنين» ضمن حزمة ألقاب أخرى تؤكد عظمة المكانة الإسلامية للسلطان العثماني.
إذ إن الترسيمة الكاملة بروتوكوليًّا عند مخاطبة سليم الأول كانت تشمل الإقرار له بالخلافة الإسلامية وخدمة الحرمين وإمارة المؤمنين.
الإخوان بين أيديولوجيا الخلافة والجمهورية
اتخذ السلطان سليم الأول لقب الخلافة إثر وفاة آخر خليفة عباسي في القاهرة، إِلَّا أن اتخاذ الإسلام أساسًا أيديولوجيًّا لمشروع سياسي أمرٌ حديث نسبيًّا. إذ يرى بعض الباحثين أن الأحزاب الإسلامية التي تأسست في تركيا منذ عقد الستينيات من القرن العشرين، إنمّا جاء بعضها امتدادًا لجماعة الإخوان المسلمين.
ولهذه القناعة أسبابها الموجبة: سعي الأحزاب الإسلامية التركية إلى التمسك بالعنصر العثماني كواحد من العناصر الرئيسة في تكوين الهوية التركية. وكذلك إبقاء العنصر العثماني على خيار اتخاذ العالم العربي، الذي تقطنه أغلبيةٌ سكانية مسلمة، بعدًا إستراتيجيًّا يحرر تركيا من خيبات أملها المتوالية والملازمة لمحاولات انضمامها للاتحاد الأوربي.
على الجانب الآخر، نجد أيضًا أن جماعة الإخوان المسلمين وتفرعاتها تتمسك بمشروع الدولة الإسلامية. بل إن تأسيس الجماعة على يد حسن البنا عام 1928 في مدينة الإسماعيلية في مصر، إنما جاء بعد أربعة أعوام من إعلان الجمهورية التركية إلغاء الخلافة. وكان قد دار جدلٌ شغل كامل الجغرافيا الإسلامية بين عامي 1922 و1924 حول موضوعة الخلافة وأهميتها الرمزية للوحدة الإسلامية.
وعليه، فلا يمكن الفصل بين تأسيس الجماعة عام 1928 وبين سياق قيام الجمهورية الحديثة في آسيا الصغرى على أنقاض الإمبراطورية العثمانية.
بينما يرى باحثون آخرون أن السياق الذي تأسست داخله أحزاب إسلامية في تركيا، وإن تشابهت بعض مكونات أيديولوجياتها مع مكونات أيديولوجيا جماعة الإخوان، هو سياقٌ تركي دولي شهدت خلاله تركيا تصاعدًا في وتيرة نمو التيارات السياسية اليسارية. وليس من أداة أكثر فعالية من الإسلام في مواجهة المد اليساري المتصاعد، وعليه سمحت السلطات الجمهورية التركية بتأسيس الأحزاب الإسلامية.
وللسبب ذاته، حصلت التيارات الإسلامية السياسية على تسهيلات في أكثر من موقع ودولة في العالميْن العربي والإسلامي، كما حصل في مصر، حين خفف الرئيس المصري السابق محمد أنور السادات كثيرًا من القيود التي كانت تحد من حركة جماعة الإخوان في مصر. وذلك حتى تقف الجماعة سدًّا في وجه التيارات والأحزاب اليسارية التي رأى فيها الرئيس السادات تهديدًا لسلامة النظام واستقراره.
الأسس العلمانية للإسلام السياسي التركي
شهدت سيرة الأحزاب والتيارات الإسلامية في تركيا موجات صاعدة وهابطة منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي. وانخرطت تلك الأحزاب في الحياة السياسية التركية عبر التحالفات مع أحزاب أخرى من اليمين واليسار القومي، وشاركت في تأليف حكومات ائتلافية في أكثر من مناسبة. كما خضعت الأحزاب الإسلامية في تركيا لأحكام قضائية تقضي بحلها، لخرقها الأسس العلمانية التي قامت عليها الجمهورية التركية الحديثة.
مع ذلك، حافظت تلك الأحزاب الإسلامية على استمراريتها. فكانت كلما صدر بحقها حكم قضائي بالحل، تعود وتتأسس من جديد. لكن العودة تعدت مجرد تأسيس هياكل تنظيمية جديدة من رحم هياكل منحلة بأحكام قضائية، إذ وصلت إلى تبني تغييرٍ جذري في خطابها.
يوم الثالث عشر من أكتوبر 1996، أي يوم انعقاد المؤتمر الخامس لحزب الرفاه، أعلن الحزب عن تحولات كبرى في خطابه. وجاء الإعلان على لسان قائد الحزب، نجم الدين أربكان، والذي يجمع المتابعون على كونه الأب الروحي للإسلام السياسي في تركيا المعاصرة.
أظهر أربكان في المؤتمر قدرًا كبيرًا من التبجيل والتقدير نحو مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك الذي كانت تطلق عليه الأحزاب الإسلامية التركية صفة «عدو الإسلام».
ومن الواضح أن غالبية الأحزاب والتنظيمات الإسلامية التركية حديثة التأسيس، عدا حزب التحرير، لم تصغ خطابًا يهدف إلى تقويض الأسس العلمانية التي قامت عليها الجمهورية التركية.
كيف صعد التيار المحافظ نحو الحكم التركي
في الفترة ما بين إعلان قيام الجمهورية في تركيا عام 1923 وحتى عام 1945 عرفت الجمهورية التركية نظام الحزب الواحد. لكن الطموح التركي للانضمام إلى نادي الأمم الغربية المتقدمة جعل تركيا تعيد النظر في نظامها. وذلك بعد أن ألمح بعض النقاد إلى احتواء «الكمالية» على عنصر فاشي.
ولتحسين صورة النظام الحاكم في تركيا، شهدت البلاد إصلاحات سياسية بعيْد انتهاء الحرب العالمية الثانية. ومن ضمن تلك الإصلاحات منح تراخيص تأسيس أحزاب سياسية غير حزب الشعب الجمهوري الحاكم والأمين على الأيديولوجيا الأتاتوركية.
وهكذا أسست مجموعة أعضاء سابقين في الحزب الحاكم حزبًا جديدًا وهو الحزب الديمقراطي بزعامة عدنان مندريس. وكان مندريس قد قضى خمسة أعوام، بين عامي 1945 وعام 1950، في مد وجزر في علاقته بالسلطات الحاكمة. وفي عام 1946 خاض الانتخابات البرلمانية لأول مرة ولَم يحقق ما يؤهله لتأليف الحكومة، ثم خاض الانتخابات مرة أخرى عام 1950 وفاز بأغلبية أهلته لتأليف الحكومة.
ويعزو الدارسون فوز مندريس الساحق في انتخابات عام 1950 إلى تحالفه مع القوى المحافظة في الأطراف، التي لم يولها حزب الشعب الجمهوري الاهتمام الكافي. إذ انصبّ تركيز الحزب الحاكم على الانتقال في المدن الكبرى باتجاه التحديث الجذري في كل مناحي الحياة، وبقيت الأرياف المهملة خزانًا بشريًّا للقوى المحافظة.
ويصح القول إن التحديث الأتاتوركي قسَّم تركيا إلى قسمين: أحدهما يسعى حثيثًا لإدراك التقدم الغربي، والآخر نُسيَ وتُرك قابعًا في الماضي الذي قطعت معه الأتاتوركية الصلة قطعًا باتًا.
مفترق الطرق بين الإخوان المسلمين وإسلاميي تركيا
شهدت العشر سنوات التي ترأس فيها عدنان مندريس الحكومة التركية، ظهور الصوت المطالب بدمج العنصر الإسلامي في مكونات الهوية القومية التركية. حتى أنّ التُهَم التي صدر على أساسها الحكم بإعدام مندريس هي خيانة النظام العلماني والعمل على تأسيس دولة دينية.
مع العلم أن انضمام تركيا لحلف الناتو حدث إبّان تولي مندريس منصب رئاسة الحكومة. وكذلك استضافة مقر «حلف بغداد»، الذي لا ينكر -حتى المدافعين عنه- أن الدافع الرئيس وراء تأسيسه كان مواجهة المد التقدمي الآخذ في التصاعد في المنطقة العربية في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية.
وينسجم هذا التموضع السياسي الدولي الذي اتخذته تركيا خلال تلك الفترة مع التوجهات السياسية لحزب الشعب الجمهوري. وفي هذا مؤشر على أن إسلاميي تركيا في العصر الحديث لا يرون أنفسهم كـ«لاعب سياسي خارج الدولة» (non-state actor). ولا يقتصر هذا التصور عن الذات على تيارات الإسلام السياسي فحسب في تركيا، بل ينطبق أيضًا على تيار الإسلام الاجتماعي الذي يتزعمه فتح الله قولن.
وهنا تفترق الطرق بين إسلاميي تركيا وبين جماعة الإخوان المسلمين في مصر.
فالإخوان المسلمون في مصر وإن هادنوا أنظمة الحكم، فما مهادنتهم إلا في سبيل انتظار اللحظة التاريخية المناسبة للانقضاض على الدولة والسلطة والتفرد بها دون القوى السياسية الأخرى. وقدمت جماعة الإخوان وسيلة إيضاح كافية بين عامي 2012 و2013 عندما فاز القيادي الإخواني محمد مرسي في انتخابات الرئاسة.
فأحد أهم الأسس الأيديولوجية لجماعة الإخوان فكرة الجماعة العابرة للحدود التي لا تقيم اعتبارًا للهويات الوطنية الحديثة، التي بدأ الوعي بها في إطار «الدولة الأمة» (nation state).
لذلك ليس من المستغرب قيام حزب التنمية والعدالة الحاكم في تركيا بالتضييق على أنشطة جماعة الإخوان داخل الأراضي التركية. لا سيما مع خيار تركيا الالتفات تجاه العمق العربي في شمال أفريقيا، خيارٌ فرضته ظروف توتر العلاقات التركية الغربية على خلفية موضوعات منها ما هو اقتصادي ومنها ما يتعلق بملف حقوق الإنسان.
القيمة السياسية لاستضافة الإخوان المسلمين
فتحت تركيا أبوابها لناشطي جماعة الإخوان المصرية، عقب إزاحة الرئيس المصري السابق محمد مرسي. لكن لا يعني ذلك أكثر من احتفاظ تركيا بورقة مساومة سياسية مع مصر وبقية الدول التي تشكل محور الاعتدال في المنطقة العربية. Click To Tweet
إلا أن ورقة المساومة السياسية هذه بدأت قيمتها بالتراجع، وفق الحسابات السياسية لحزب التنمية والعدالة. إذ تتمثل في تمكين ناشطي جماعة الإخوان المصرية من استهداف مصر والسعودية والإمارات والبحرين عبر المنصات الإعلامية التي تبث من الأراضي التركية.
إلا أن بعض المحطات التلفزيونية الإخوانية قد أغلقت، وطلبت تركيا من المحطات الراغبة بالاستمرار التوقف عن الإساءة الإعلامية لمصر في المقام الأول، وتخفيف حدة النبرة العدائية تجاه السعودية والإمارات والبحرين.
ففي نهاية الأمر، من أسَّسَ حزب التنمية والعدالة مجموعةٌ من الأعضاء السابقين في حزب الرفاه الإسلامي الذي تزعمه نجم الدين أربكان، الذي أعلن بوضوح عن تبجيله للأساس الأتاتوركي الذي قامت عليه الهوية القومية التركية الحديثة.
وهذا على النقيض من نظرة تيارات وأحزاب وجماعات الإسلام السياسي العربية التي تزدري العنصر الأساسي في تكوين الهويات الوطنية لمواطني دول المنطقة العربية.