هل تعود علاقات الرياض مع سوريا؟

عودة النظام دون تحديد من جلب كل هذه الكوارث لسوريا والسوريين، يعني اعترافًا عربيًّا بشرعية كل جرائم الحرب التي ارتكبت ضد الشعب السوري.

علاقات النظام السوري العربية، بما في ذلك علاقاته مع السعودية، حكايةٌ متجذرة في طبيعة النظام وتاريخه الذي يعود لستينيات القرن الماضي. لم تعرف سوريا الاستقرار طوال هذا التاريخ. وهذه حكاية تستحق استعادة بعضًا من فصولها هنا. 

تعود مناسبة هذا الحديث لما تردد مؤخرًا عن أنَّ الوضع في سوريا، وفي المنطقة، بات مهيئًا لعودتها للجامعة العربية، وفي السياق ذاته عودة علاقة السعودية مع النظام السوري. فهل هذا صحيح؟ 

ابتداءً، ليس لهذه المعلومات مصادر رسمية أو مصداقية يمكن البناء عليها. ويبدو أن من يروج لها جهات قريبة من النظام السوري لإعطاء الانطباع بأنه «انتصر على الإرهاب»، كما يقول قاموسه السياسي، وأن الأمور في سوريا تعود إلى طبيعتها. وبذا يحين الوقت لطي صفحة ما يسمى «بالثورة». 

الاحتلالات الخمس لا تزال قائمة 

يشوب هذا الكلام الكثير من التضليل، والأكثر منه الاستهتار بالمواطن السوري. هو كلامٌ يهدف بطريقة انتهازية لاستغلال الانقسام العربي ومصالح الدول الآنية بغية تجاوز ما حصل، والتعامل معه كماضٍ قريب، لكنه يظل من الماضي. هل صحيحٌ عادت الأوضاع في سوريا إلى طبيعتها؟ أو حتى اقتربت من ذلك؟

لو أن الأوضاع عادت إلى طبيعتها، أو قريبًا من ذلك، لما كان ثمة حاجة لبقاء الاحتلالات الخمس: الروسي والإيراني والميليشيات والأميركي والتركي مجتمعة. لكن ليس هناك أدنى مؤشر على اقتراب أي منها من الانسحاب من سوريا. هذا فضلًا عن أن هدف إيران البقاء في سوريا لأمد طويل، لأن هدفها المباشر ليس حماية نظام الأسد وحسب، بل تغيير سوريا ديموغرافيًّا تحت غطاء هذا النظام. أما الهدف الأبعد فقد يتجاوز النظام. وهذه من نتائج دفع الأسد للثورة دفعًا للتحول إلى حرب أهلية. 

الأدهى أنَّ هذه الاحتلالات الخمس، وهي حالة سياسية نادرة ندرة صدق النظام السوري وحليفه النظام الإيراني، لا تزال تسيطر على مقدَّرات البلد والناس، بما في ذلك حدود سلطات رئيس النظام بشار الأسد ومستقبله السياسي. وفي ظل ذلك لم تتوقف المواجهات العسكرية، والأوضاع الأمنية والمعيشية لا تزال في أسوأ حالاتها.

ثم ماذا عن الذين قضوا في الثورة، وفي الحرب الأهلية التي فرضها النظام على الجميع تحت شعار «إما الأسد أو نحرق البلد»؟ في السياق ذاته، يأتي السؤال عن الذين قضوا في سجون النظام تحت التعذيب لأنهم رفضوا خيار الأسد، والذين قضوا بالسلاح الكيماوي على يد النظام. كم يصل عدد كل هؤلاء؟ تقدر الأمم المتحدة إجمالي الذين قضوا بستمائة ألف قتيل. وهذا رقم محافظ جدًا. 

عودة الأمور إلى طبيعتها تستوجب اعتراف النظام بكل ما حصل، وحدود مسؤوليته في ذلك. بدلًا من ذلك يطالب بعودة علاقاته العربية، خاصة مع الرياض، وعودته للجامعة بهدف دفن ونسيان كل ما ارتكب.

ثم ماذا عن الدمار الذي طال أغلب مدن سوريا على يد النظام ببراميله المتفجرة، وحلفائه الروس بقاذفاتهم، والإيرانيين بميليشياتهم؟ وماذا عن ملايين اللاجئين في جميع أنحاء العالم تقريبًا، خاصة الذين آل مصيرهم إلى المخيمات في الأردن وتركيا ولبنان؟ 

هنا تبدو مفارقة التشابه بين النظامين في سوريا وإسرائيل. إذ بقدر ما حوَّلت الأخيرة أعداءها الفلسطينيين إلى لاجئين، حول النظام السوري مواطنيه إلى لاجئين أيضًا.

التحالف العلويّ الإيراني 

يؤكد ذلك أن النظام السوري هو الطرف الوحيد الذي لا يطالب بعودة المهجرين السوريين! وهذا نتاجٌ طبيعي لتاريخ النظام. وهو تاريخ يحكمه مبدأ تحالف الأقليات منذ انقلاب البعث السوري في صيف 1966. هكذا حكم رجل سوريا القوي صلاح جديد بعد الانقلاب المذكور. ومن المنطلق ذاته انقلب حافظ الأسد على حليفه جديد في 1970، وحكم سوريا حتى نهاية الألفية الأولى. 

وهكذا حكم ويحكم بشار مع فارق كبير، كونه أول حاكم لسوريا منذ الاستقلال لا يستطيع الحكم من دون حماية دولة إقليمية، هي إيران. لماذا؟ لأنه لم يصل للحكم بمؤهلاته وتحالفاته الداخلية، بل كأول وريث لمشروع تأسيس سلالة حكم علوية في الشام. 

كان حافظ، والد بشار، صاحب هذا المشروع. لذلك تحالف منذ اللحظة الأولى مع نظام ولاية الفقيه الذي انبثق عن الثورة في إيران. ووقف مع إيران في حربها ضد العراق على مدى ثمان سنوات، في سابقة لا مثيل لها في التاريخ العربي الحديث، حيث يقف بلد عربي ضد بلدٍ عربي آخر في حالة حرب مع بلد غير عربي. الأدهى من ذلك أن الأسد كان يحكم باسم حزب البعث الذي كان يحكم العراق أيضًا. 

في هذا السياق، كان هدف حافظ توريث الحكم داخل عائلته، لا داخل دائرة الرفاق في حزب البعث. وكان خياره الأول شقيقه رفعت. لكن الأخير أثبت تطلعه للاستيلاء على الحكم بعد أخيه على كل حال. فارتاب منه، وانتقل خيار التوريث إلى باسل، الابن الأكبر لحافظ. وبعدما توفي باسل في حادث سيارة، صار الوريث بشار. 

الشاهد هنا أن عملية التوريث، وهي الأولى في تاريخ الجمهوريات العربية وتمَّت بالإكراه والقوة الأمنية، أضعفت الوريث والنظام السياسي معًا. حيث أكدت الهوية العلوية للنظام، وبالتالي خلقت مسافة كبيرة بينه وبين مكونات الشعب السوري، خاصة غالبيته السنية. مما ضاعف من اعتماد بشار على نظام إيران بهويته الشيعية لدعمه وحمايته داخليًا وإقليميًّا.

لم تعد سوريا إلى وضعها الطبيعيّ

بعد هذا المنعطف الكبير جاء الربيع العربي، ومعه الثورة السورية. فأدرك بشار أن وجوده أمام خطر داهم. فقرر بالتشاور والاتفاق مع الإيرانيين أن خياره الوحيد جعل هذه الثورة، إذا تطلب الأمر، الأكثر دموية ودمارًا. فإما يكسب بهذا الخيار، أو تُدمَّر سوريا. ومن هنا جاء شعار النظام «الأسد أو نحرق البلد»، وهذا ما حصل. 

بالمنطق ذاته، لا يفضل النظام عودة المهجّرين، فغالبيتهم من السنة. وبحكم هويته المذهبية وتحالفاته على أساس مذهبي، يبدو أن النظام يرى التهجير كعملية طبيعية جاءت في ظروف الحرب لتغيير التركيبة الديمغرافية في سوريا. وهو تغيير يعيد على الأقل شيئًا من التوازن للتركيبة المذهبية للشعب السوري، ويصب في صالح تحالف الأقليات الذي يعتمد عليه النظام. 

بايدن لن يقدم حلًا في سوريا

في الرابع والعشرين من مارس الماضي، أقرت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي مشروع قرار جديد بشأن سوريا، وذلك بإجماع أعضاء اللجنة

15 أبريل، 2021

تكشف هذه الخلفية لتاريخ النظام، والمآل الذي انتهى إليه، أنَّ سوريا لم تعد إلى وضعها الطبيعي؛ ليس بعد الثورة فقط، بل قبل ذلك بعقود. كانت الثورة نتيجة طبيعية لذلك الوضع الشاذ الذي عانت منه سوريا ولا تزال منذ الاستقلال. ولا يبدو أنها ستعود إلى الوضع الطبيعي عن قريب. 

فمن بين أهم عناصر الوضع الطبيعي لأي دولة، بجانب الأمن والاستقرار، استقلال الدولة وسيادتها. والدولة السورية، فضلًا عن غرقها في حروب ومآسي سبَّبها النظام، قد فقدت استقلالها وسيادتها منذ عشر سنوات، وهي لا تزال تحت خمسة احتلالات، جاء النظام بأغلبها. 

وآخر معالم هذه الأوضاع غير الطبيعية كانت الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي فاز فيها بشار الأسد بأكثر من 95% من الأصوات. وهي نسبة تعجز عن تحصيلها حتى ملائكة السماء، تحت ظروف تتفوق بطبيعيتها على الظروف الطبيعية. كيف فاز الرئيس بهذه النسبة ونصف الشعب مُهجر؟ ثم ما حاجة رئيس يفوز بهذه النسبة الخرافية إلى بقاء القوات الروسية والإيرانية وميليشياتها؟

المأزق الآن أن عودة سوريا بوضعها الحالي للجامعة العربية كبلد عربي حقٌّ وضرورة. لكن هل يمكن فصل سوريا عن نظامها في الظروف الحالية؟ وهل تجوز عودة نظامها السياسي وهو على هذه الحال؟

الجامعة العربية متحفظة على العودة 

عودة النظام السوري بوضعه الحالي لا يعني عودة لسوريا، بقدر ما يعني إعطاء مشروعية عربية للغطاء الذي منحه النظام لاحتلال إيران وميليشياتها لبلده العربي، واعترافًا بشرعية التمدد الإيراني في المنطقة العربية. Click To Tweet

ثم إن عودة النظام بدون استعادة استقلاله، وعودة المهجرين، ودون معرفة المسؤول عن الملايين الذي قتلوا وأصيبوا وفقدوا أهاليهم وأقاربهم وممتلكاتهم، ودون تحديد المسؤول الذي جلب كل هذه الكوارث لسوريا والسوريين، يعني اعترافًا عربيًّا بشرعية كل جرائم الحرب التي ارتكبت ضد الشعب السوري، وتخلٍّ عن المعنى القانوني والشرعي والإنساني لمعنى الدولة العربية. 

وانطلاقًا من ذلك، جاءت تصريحات المندوب الدائم للمملكة العربية السعودية في الأمم المتحدة، عبدالله المعلمي، لقناة روسيا اليوم حول هذا الموضوع بقوله:

«ما زال الوقت مبكرًا للحديث عن التطبيع مع سوريا […] حيث مازال الوضع السوري صعبًا […] وما زال النظام السوري يمارس هجماته على المدنيين […] ويمارس سياسة التغيير العنصري والتطهير الإثني. لذلك نعتقد أن هناك خطوات عديدة ينبغي على النظام السوري اتّخاذها قبل الحديث عن إمكانية التطبيع أو عودة العلاقات.» 

ومن الواضح أن تصريحات المعلمي المباشرة وضعت حدًّا لكل ما يقال حول هذا الموضوع. أما بالنسبة لعودة سوريا للجامعة العربية، فقد ذكر المعلمي أن الأمر يتطلب إجماع الدول العربية، وأغلب هذه الدول لا تزال تتحفظ على هذه العودة. وهو في هذا يؤكد ما قاله الأمين العام لجامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط، من أن الوضع العربي ليس مهيئًا بعد لعودة سوريا إلى الجامعة. وهذا هو الموقف الطبيعي. 

سوريا عزيزة على كل عربي، لكن النظام السوري شيء وسوريا شيء آخر. ارتكب هذا النظام جرائم حرب ضد شعبه. وهي جرائم تحت نظر التحقيقات الدولية. وارتكب انتهاكات فاضحة ضد الأمن العربي والهوية العربية بفتح باب سوريا أمام إيران وميليشياتها لحمايته أمام شعبه.

 لم يفكر نظام الأسد حينها بالجامعة العربية، ولا بأعضائها عندما اتخذ هذا القرار. وهو الآن يريد العودة للجامعة حتى يضفي شرعية عربية على هذا المنحى الطائفي الذي اختاره، وعلى تواجد قوات إيران وميليشياتها لحمايته. والجامعة العربية ليست في هذا الوارد حتى الآن.

إيرانالدول العربيةسورياالسلطة
المقالات العامة
المقالات العامة
منثمانيةثمانية