كيف يختلف الفتح الإسلامي عن الاستعمار
أدخل الفتح الإسلامي أقاليم إلى دائرة التاريخ بعد أن كانت خارجها، وجدّد الحيوية التاريخية في أقاليم أخرى بعد أن جنحت إلى السكون.
خالد البكر
للتاريخ حوادثه. ولحوادث التاريخ أسماء ومصطلحات هي مفاتيح الماضي البشري. بها نستفتح مغالقه، ونشرح غوامضه، ونُفصّل مُجمله، فتستقيم المعرفة التاريخية قائمة على سوقها، وتتداولها أقلام المؤرخين على وجهها الصحيح.
وتُعد ظاهرة «الفتوح» من الظواهر الكبرى في تاريخ صدر الإسلام، إذ امتدت الموجة الأولى منها مطلع القرن الأول الهجري إلى الهلال الخصيب «العراق والشام»، وسالت شرقاً وغرباً في وقت متزامن فوطئت أواسط آسيا، واتجهت إلى مصر والشمال الإفريقي. ثم أعقبتها الموجة الثانية في النصف الأخير من القرن الأول الهجري، فمدَّت أرض الإسلام مسافات أطول وزادت فيها أميالاً شرقاً وغرباً، واستطالت إلى أوروبا فدخلتها للمرة الأولى، ونقشت صفحات من تاريخها على وجه الزمان، وأبدعت ألواناً من الحضارة فوق تضاريس المكان.
لا نُريد أن يسيل مِداد القلم مع سيولة الفتوحات الإسلامية فيمشي في ركابها أو يقفو خُطاها، فحديثُنا هنا ليس عن مراحل الفتوحات الإسلامية ومنجزاتها. إنما نسوق الكلام نحو مناقشة معنى «الفتوح»، وهو المُصطلح المُفضّل لدى الباحثين المسلمين عندما يصفون حركة انتشار الإسلام في القرن الأول الهجري-، ولماذا هو «فتحٌ» حسب وصفنا له، ولم يكن «غزوًا» أو «احتلالًا» كما تصفه دراسات أجنبية؟
تعود الاستعمالات المبكرة لمصطلح «الفتوح» إلى فترة السيرة النبوية، فقد وصف الله -جلّ ثناؤه- صلح الحديبية الذي عقده النبي -صلى الله عليه وسلم- مع قريش سنة 6 هـ بأنه فتحٌ مُبين. قال تعالى: «إنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا». لقد جاء بمثابة إعلان عن «فتوح بلدان» لم يظفر بها الإسلام من قبل. إذ كانت مغازي المسلمين الأولى وسراياهم تجوس خلال الديار، فتكسب نصرًا هنا، وتنجح في عقد موادعة هناك.
لكنها فيما بعد صلح الحديبية حققت انتصارات نوعية بافتتاح مدنٍ وقرى عامرة. فكأن هذه مرحلة تالية ومتداخلة مع المغازي الأولى، تُتمِّمها وتمدُّ ظلالها. وهكذا لم يمضِ عامٌ على الحُديبية حتى كان أمر خيبر سنة 7 هـ، فافتتح المسلمون حصونها واحداً بعد الآخر، وهذا هو التعبير الذي نقرؤه في مصادر السيرة النبوية: «افتتاح حصون خيبر». ثم تلاه فتح مكة سنة 8 هـ، وهو الفتح الذي تجاوبت أصداؤه في شعر تلك الفترة. قال حسان بن ثابت:
فإما تُعْرِضُوا عنا اعتَمَرْنَا… وكان الفتحُ وانكشَفَ الغِطاءُ
وإلا فاصبروا لجِلادِ يَومٍ… يُعِينُ اللهُ فيهِ من يشاءُ
وشيئًا فشيئًا انتشر المصطلح بين أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فكان بعضهم يتحدث إلى بعض في حصار الطائف -سنة 8 هـ- بعباراتٍ من مِثل: «إن فتح الله عليك الطائف»، «أن يفتح الطائف».
ثم نجد صيغة أخرى لمفهوم الفتح لا تعطي معنى الانتصار المباشر على العدو أو افتتاح أراضٍ جديدة للإسلام، وإنما تتجه إلى اعتبار المحافظة على أرواح الجنود المسلمين فتحاً، فعندما بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- نبأ استشهاد قادة جيش غزوة مؤتة، واتفاق المسلمين على خالد بن الوليد قائداً، ومهارته في استنقاذ الجيش، قال عليه السلام: «حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه».
ومع خروج العرب من جزيرتهم فيما يُعرف بالفتوحات الإسلامية، شاع مُصطلح «الفتح» وذاع، وانتقل من الرعيل الأول من الفاتحين المسلمين إلى الرعيل الأول من الأخباريين والمؤرخين، فظهرت كتبٌ بهذا العنوان ككتاب «الردّة والفتوح» لسيف بن عمر، وكتاب «فتوح الشام» للواقدي، و «فتوح البلدان» للبلاذري، وغيرها.
رسم لمعركة وادي لكّة بين المسلمين والقوط في الأندلس (92 هـ)
أمَا وقد فرغنا من مُقاربة نشأة المصطلح وملاحظة تطوره في الفترة المبكرة من تاريخ الإسلام؛ فإنه بقي أمامنا الالتفات إلى سبب اتخاذ المسلمين مفهوم «الفتح» دون غيره من المفاهيم المجاورة وصفاً لامتداد ظلال دولتهم على المناطق المفتوحة.
هناك من يصف الفتوحات الإسلامية –أو بعضها– بمصطلح «الاحتلال»، أو «الغزو»، إلى غير ذلك من التنويعات اللفظية ذات المعنى السلبي، التي تستهدف التقليل من قيمة ظاهرة الفتوحات الإسلامية ونزع غطائها الأخلاقي. ولربما نجد من هو أقل حدّة في التوصيف، فيُطلق عليها «الامتداد» أو «الانتشار» ونحو ذلك من المصطلحات التي تقف في منتصف المسافة بين المدح والذم
نحن ممتنون لزيارتك لمدونتنا، حيث ستجد أحدث المستجدات في عالم التكنولوجيا والابتكار. نهدف في هذه المدونة إلى تقديم لك محتوى ذو جودة عالية يغطي مجموعة واسعة من المواضيع التقنية المثيرة.jj