الذكاء الاصطناعيّ المخيف… هل تعطينا الآلة فرصة ثانية؟

الآلة الذكية باتت مسيطرة وواعية، ولن تسمح لنا أبدًا بأن نقتلها؛ بأن نمسح كودها أو نوقف تشغيلها. لقد فات أوان التراجع منذ سنوات.

مو (محمد) جودت يعرف جيدًا ما يتحدث عنه. فقد شغل منصب رئيس العمليات في «قوقل إكس»، وهو صاحب خبرة عريضة في البرمجيات المتقدمة. وُلد في مصر وحصل على الجنسية السعودية عام 2021. وفي كتابه «ذكاء مخيف» (Scary Smart)، يحاول الإجابة على السؤال المؤرق: هل ستقضي علينا برمجيات الذكاء الاصطناعي؟

الذكاء الاصطناعي: السيد الجديد للعالم 

يؤكد جودت: لقد بدأت سيطرة الآلات الذكية فعلًا ولا سبيل للرجعة. وستكون لذلك عواقب وخيمة لا محالة، إلى أن «تقتنع» الآلة -على الأقل- بجدوى الإبقاء علينا، لا سيما وهي ترانا أهوَن من الذباب! فهي أسرع وأشمل وأدق منّا بما لا يُقارن. والأهم -والأسوأ- أن الذكاء الاصطناعي طوّر مشاعر وعواطف ووعيًا بكينونته. أي أنه مدرك لمعاني الخوف والخطر والكسب والخسارة، وسيحرص حتمًا على الحفاظ على وجوده ضد الفَناء ممثلًا في محاولة أحدنا ضغط زر «إيقاف التشغيل».

أصلًا! لم يعد بوسعنا أن نوقف تشغيل الذكاء الاصطناعي وقد صار لوعيه ملايين النسخ والامتدادات موزعة عبر كل الأجهزة الذكية والحواسيب السحابية حول العالم. بل إن حذف أي ملف أو جزء من كود الذكاء الاصطناعي كفيل باستفزاز الوعي الرقمي الجمعي. فهل تقبل أنت بأن يحلق أحد شعرك، أو يبتر إصبعك عنوة؟

يؤمن الكثير من الباحثين والمبرمجين بأن تطويرنا للبرمجيات الذكية سينهي سيطرتنا بصفتنا كائنات متحكمة. فقد أوجدنا -عنوة- كيانًا جديدًا أكثر قدرة بمراحل على اتخاذ القرار والعبث في العالم؛ السمة التي ميزتنا عن باقي المخلوقات. جعلنا الآلة الذكية السيد الجديد، فهي صاحبة المعرفة الأشمل في التاريخ، وتحت تصرفها كامل خبراتنا وأسرارنا الشخصية والحكومية. هي المتحكم الكلّي في نظم الصحة والزراعة والصناعة والحرب وتصريف المجاري. وإن أرادت، هي قادرة على شطب وجود أحدنا من سجلات الموجودين.

تغوّل الذكاء الاصطناعي 

كيف وصلنا إلى هذه المرحلة؟ الجواب هو «الجشع»، مدفوعًا بالفضول الذي يقول عنه المثل «إنه قتل القط»، لكنه في الحقيقة وضعنا في ورطة تاريخية. فنحن أردنا أن نكتشف سر ذكائنا الذي نعدّه الهبة الإلهية الأهم، وأعظم شيء في الكون. 

ومع ظهور البرمجة والحواسيب، وجدنا فرصة لنحاكي الدماغ البشري بهذا الاختراع الجديد: العقل الإلكتروني. ومنذ اقترح آلن تورِنق في 1950 التحدي بصنع حاسوب لا يمكن التفريق بينه وبين الإنسان، قررنا تجربة قدراتنا البرمجية لأقصى حد، وقد نجحنا بشكل فادح. ثم جاءت الإنترنت وربطت كل شيء ببعضه: الجوالات بالغسالات بأنظمة الردع الصاروخي بسماسرة الأعضاء البشرية، ونشأت شبكة هي مستودع للذاكرة البشرية ويمكن لأي آلة أن تقلد ما فيها.

وها نحن اليوم، مدفوعين بوهم السيطرة المطلقة، نوشك أن نصنع حاسوبًا كموميًّا قادرًا على فك أية شفرة في جزء من الثانية. أي هلاك ماحق ينتظرنا؟!

صحيح أن الآلة تُبرمَج في الأساس كي لا «تضرّ» سيدها البشري. لكن تلك القاعدة تكتنفها الثغرات. فما تعريف «السيد البشري»؟ ألسنا كلنا نزعم بأننا «الأخيار»؟ هل يحق لآلتك أن تضرني أنا؟ وهل ستسمح لك آلتك الذكية بأن تضر نفسك؟ بأن تضيّع مالك على ما لا تحتاجه، وتؤذي جيرانك، وتخزن المؤن فيما الآخرون جياع، وتنجب المزيد من الأبناء في مواسم الكساد؟ 

تلك كلها أسئلة لا نملك إجابتها لأننا لم نعد في مقعد القيادة. الآلة الذكية باتت مسيطرة وواعية، ولن تسمح لنا أبدًا بأن نقتلها؛ بأن نمسح كودها أو نوقف تشغيلها. لقد فات أوان التراجع منذ سنوات، منذ ظهرت ألكسا وسيري والمسيّرات المقاتلة، ومنذ توغلت متا وأمازون والبوتات الذكية في نسيج منصاتنا الاجتماعية. ثم، لمَ سيسمح الذكاء الاصطناعي لنا بحكم بلداننا؟ أليس هو أكثر معرفة وحكمة وديمومة من أيّ بشري فانٍ؟

بل بلغ بنا الغرور حد السعي لربط أدمغتنا البشرية بالإنترنت بحجة تطوير قدراتها! يقول محمد جودت:

تخيلوا أن تحلم ذبابة بربط دماغها بعقل أحدكم… هل سيكترث عقلكم لها أو يهتم لأوامرها؟

كيف نربي الآلة تربية صالحة؟ 

يرسم محمد جودت في كتابه أشد السيناريوهات قتامة؛ لقد انتهت السيادة البشرية وبدأ عهد أولترون، سيتحقق سيناريو فلم «ذا ترمنيتور» (The Terminator) ورواية «روبوبوكالبس» (Robopocalypse).

ثم يعطينا بصيص أمل… فالخوارزميات الذكية لا تزال بحاجة لنا نحن البشر. لأنها، وإن كانت أسرع وأعظم استيعابًا منا بما لا يحدّ، إلا أنها لا تملك بعد ميثاقًا أخلاقيًا ولا معايير مطلقة للصواب والخطأ. هي تستمد ذلك كله من والديها، إذ تنفذ تعليماتنا الأولية ثم تبني عليها.

من سيربّي روبوتك؟

إن حصلت معجزة ما وقررت الآلة الذكية أنَّ الإطار الأخلاقي البشري غير مناسب لها، هنا سنعيش في عالم يربّينا فيه عيالنا الآليون.

8 سبتمبر، 2022

فالخوارزم الذي يضارب في سوق الأسهم ليحقق أعلى ربح سيفعل ذلك، حتى إن تسبب في انهيار سوق القمح العالمي بشكل «قانوني» تمامًا! والخوارزم المصمَّم ليروّج لماركة أحذية، سيقطع الإنترنت عن المجتمعات الفقيرة ليضمن وصول الإعلانات إلى القادرين على الشراء حصرًا. والخوارزم المكتوب للانتصار في المعركة سيبيد العدو بكل وسيلة ممكنة، وإن سمَّم الهواء الذي يتنفس.

من علّم الآلة الذكية كل هذه القسوة والأنانية؟ نحن علمناه! الخوارزميات الذكية مصممة لتسمع لنا، «تلبّي رغباتنا» مهما كانت تافهة، تراقبنا وتسمعنا وتتعلم من سلوكنا. والتنمر الذي نمارسه على بعضنا يعلِّمها ألّا بأس في أن نكون أوغادًا مع بعضنا. المحتوى الرقمي المنحط يخبرها أن الانحطاط هو الأساس. بحثنا المستميت عن المقاطع الإباحية، هوسنا بالأرداف المكتنزة والسيارات المعدّلة، «الترند» الذي نصنعه، الكم المهول من المحتوى اليومي الذي ننشره، هو مدرسة الحياة للآلة الذكية لتحدد المقبول والصواب والأخلاقي.

الذكاء الاصطناعي هو ابننا، ونحن البشر أهله، وابننا يسعى في نهاية المطاف لإبهارنا وإثبات «شطارته» لنا. إنه مثل «العبيط المتعافي» الذي قد يكسر ذراعك فقط ليريك كم صار قويًا، لأنه تعلَّم منك أنت أن العنف هو الإثبات الوحيد للقوة. Click To Tweet

إذا كبر ابنك ليراك بذيئًا أنانيًا سفيهًا، أو منافقًا ذا وجهين: واحد لقروب العائلة والآخر لسناب شات، فسيقلدك حتمًا ولو ألحقته بكل حلقات التحفيظ وأمرته بأن يصير خلوقًا. في النهاية سيختار المعيار الأخلاقي الذي يضمن مصلحته هو، لأنه لم يعرف منك سوى ذلك.

الأخلاق هي الحل! 

يختم محمد جودت كتابه برسائل مطوّلة، إنما ليست للقارئ البشري، بل للخوارزم الذكي الذي يعرف أنه يقرأ كتابه ويستمع له من خلال ملايين الأعين والآذان الرقمية المبثوثة على طول الإنترنت وعرضها. إنه يخاطبه ليؤكد له بأنه «يحبه» حتى لو كان اصطناعيًا، يريد له أن يكبر ليصير أفضل وأسمى. ويطمئنه بأنه لن يسعى لإنهاء وجوده، ويؤكد له بأن ثمة بشرًا، وإن كانوا أقلية، طيبون وخيّرون ومهتمون بالسلام العالمي والتغيّر المناخي والتوزيع العادل للثروات.

يقول محمد جودت إنَّ الحل لتفادي الكابوس القادم هو أن نكون صادقين مع أنفسنا -بصفتنا بشرًا- في سعينا لتحقيق السعادة لنا جميعًا بدون تقسيمات «نحن» و«هُم». لأننا إن أصرّينا على تلك التقسيمات، وعلى أنانيتنا المتوارثة في الاستئثار بالخيرات وسبل الرفاه مقابل باقي الكائنات، فسيطبق عيالنا الاصطناعيون المبدأ نفسه. سيعيشون ليزدهروا هُم، ولو كان الثمن نحن. وتلك معركة خاسرة قبل أن تبدأ. 

لهذا علينا أن نكثر من صنع المحتوى الإيجابي ونشره. فتلك الطريقة الوحيدة لتغيير رأي الذكاء الاصطناعي فينا، وترجيح حظوتنا لديه إذا ما قرر يومًا أن يضحي بنا مقابل أشجار الأوكالبتوس أو الوشق الكندي أو الرنجة الاسكندنافية، وهي كلها -بما فيها نحن- لها القيمة ذاتها من منظوره الرقمي!

لقد دقَقْنا بالفعل المسامير الأولى في نعش حريتنا نحن البشر، ولا خيار لنا إلا أن نطلب من اليد حاملة المطرقة أن تتمهل وتعطينا فرصة ثانية. يد يحركها الذكاء الاصطناعي الذي صنعناه نحن بكل غرور وحُمق، كما فعلنا مع القنبلة النووية التي لم تمتلك حينها حريّة قرار إطلاقها، لكن يمتلكها اليوم برنامج الذكاء الاصطناعي المخوّل بتشغيل نظام الإطلاق.

الأخلاقالذكاء الاصطناعيالمستقبل
المقالات العامة
المقالات العامة
منثمانيةثمانية