كتب أخفاها القراء

أحكام أدبية كثيرة تحكمت فيها العلاقات الضيّقة بين المؤلّفين، ولنا مثل في علاقة سارتر نفسه بكامو، كيف كان موقفه من نصوصه قبل أن يعرفه عن قرب.

مشهدٌ تكرّرَ في عددٍ من الأعمال التي تناولت سيرة فرانتز كافكا: يستقبل فرانتز، من بين من يستقبلهم في شقّته ببرلين، صديقًا أتاه يتأبّط رزمةَ أوراقٍ، هي مخطوطُ عملِه الجديد. يختلي كافكا بصديقه مدّةً في المكتب، ثم ما يلبث الصّديق أن يخرج من الخلوة دامعَ العينين، وفي إثره فرانتز يردّد أسِفًا: «كيف يُعقل أن يكتب المرء بهذا السّوء»؟

لم يكن الصّديق سوى فرانتز آخر، فرانتز فيرفيل الذي أتى يبحث، على ما يبدو، عن ختم اعتراف وإجازة من كافكا، أكثر من سعيه إلى الحصول على رأيٍ فنيّ فيما يكتبه، والدّليل أنّه نشر معظم تلك الأعمال، وحاز بفضلها اعترافًا نقديًا وإعلاميًا، على الرّغم من حكم كافكا بسوئها.

الواقع أنّنا لو فكّرنا في كتابة سيرة تنضاف إلى ركام السيَر التي كُتبت عن كافكا، فيمكن أن نقدّم عملًا متكاملًا، فقط بالنّظر من زاوية العلاقات النقدية الضيّقة التي نسجها كافكا مع مجايليه (من عاشوا في نفس جيله) وأصدقائه. ونقصد بعلاقات النقد الضيّقة، تلك التي ينسجها المؤلّفُ مع محيطه المباشر من أصدقاء وشلّة نقاد مقرّبين وكتّابٍ، وهي في الغالب الأعمّ علاقات نقدٍ تتجاوز المستوى الفنيّ والأدبيّ إلى المستوى الاجتماعي والنّفسي (صراع، إعجاب، غيرة، حسد…).

وعلى الرّغم من أنّ كافكا كاتب غير مولع باستعراض المقروء في كتاباته، إلّا أنّ سيرتَه الأدبيّة تظلّ محكومةً في مجملها بالأحكام الفنيّة والنّقدية والأدبية، سواء منها أحكامه على أعمال أصدقائه (موقفه من أعمال فيرفيل وماكس برود مثلًا)، أو أحكام الكتّاب الآخرين على أعماله (ريلكه، برود، ميلينا…).

قلنا إنّ تعقيد الأحكام النّقدية الضيّقة يكمن في أنّها لا تستقرّ عند مستوى النصّ، بل تتعدّاه إلى شبكةٍ من العلاقات الاجتماعية التي تجعل الحكم النقديّ ينطبع، في الغالب الأعمّ، بانفعالات النّفس وأهوائها. وربّما يكون من أبرز أشكال العلاقة التي قد تؤثّر في إنتاج النصّ وتلقّيه، علاقة الأستاذية: حين يضع المؤلّف نفسَه، طواعية أو كرهًا، تحت وصاية كاتبٍ آخرَ. أحيانًا تكون النّتيجة مذهلةً، على شاكلة قصيدة «الأرض اليباب» لإليوت، التي أطلع الشّاعرُ عليها صديقَه الشّاعر عزرا باوند، وكانت النّتيجة، على ما يقال، أنْ شطَبَ باوند نصفَ العمل، لتطّلع القصيدة على القارئ بذلك الكمال العجيب، لا زيادة ولا نقصان.

نماذج أخرى لم تكن الأستاذيّة فيها خيرًا للقرّاء، ولعلّ من أبرز الأمثلة الشّاهدة عليها النّصّ الذي نُشر مؤخّرًا لسيمون دو بوفوار بعنوان «صبيّتان لا تفترقان»، عملٌ ظلّ حبيس الدّرج، ضمن مخطوطات أخرى لم تنشر، تملكها ابنتُها. قد يتصوّر المرء أنّ نصًا روائيًا كهذا الذي نتحدّث عنه، لم يُنشر قيد حياة المؤلّف، لأنّ المؤلّف لم يكمله، أو لم يستطع أن يبلغ بالتّنقيح المستوى المقنع، لكن حين نطّلع على حيثيات عدم نشر رواية «صبيّتان لا تفترقان»، ندرك أنّ سيمون كانت مقتنعةً بالعمل تمام الاقتناع، إنّما النصّ لم يرُق لـ«قارئَها الأوّل» جون بول سارتر، إذ رآه مبتسرًا ولا يرتقي إلى مستوى كتاباتها الأخرى. وبعد قراءة العمل تترسّخ لدى القارئ القناعة بأنّه أحد أجمل نصوص المؤلّف وأعذبها، نصٌّ نكتشف فيه سيمون أخرى، ونكشف معها شبكةً من العلاقات العاطفية والنّفسيّة والاجتماعية التي سادت بين مثقّفي باريس آنذاك، في ابتداء حياتهم.

لن يستطيع قارئٌ، على وجه اليقين، القطع بسبب رفض سارتر نشر العمل، لكن المؤكّد أنّ رفضَه كلّف القرّاء سنواتٍ من الانتظار، حتّى إنّ كثيرًا منهم قد تُوفّوا ولم يعرفوا أنّ لسيمون أصلا نصًّا بهذا العنوان. كما أنّنا نحن أنفسنا، قرّاء هذا العصر، ما كنّا لنعرف النصّ لولا أنّ ابنتها قرّرت نشرَه، ممّا يؤكّد أنّ النّصوص تتحكّم فيها عوامل هامشية لا تقلّ تأثيرًا عن قيمة المتن نفسه.

أحكامٌ أدبيّة كثيرةٌ تحكّمت فيها العلاقات الضيّقة بين المؤلّفين، ولنا مثلٌ في علاقة سارتر نفسه بكامو، كيف كان موقفه من نصوصه قبل أن يعرفَه عن قرب، وكيف تغيّرت الأحكام بتوطّد العلاقة، حتّى ليمكن القول إنّ أمثل علاقة ممكنة بين الكتّاب هي علاقات التّباعد. وأعمالٌ كثيرةٌ ربّما لم نعرِفها، ولن نعرفَها، ببساطة لأنّ «الآخر، لم يقتنع بها…».

القراءةالكتبالنقد
نشرة إلخ
نشرة إلخ
كل يوم خميس منثمانيةثمانية

نشرة أسبوعية تتجاوز فكرة «أنت تستطيع» إلى «كيف تستطيع» تحقيق أهدافك وتحسين نمط حياتك.