هل ينتهي مهرجان «كان» قريبًا؟

السؤال عن مستقبل المهرجانات السينمائية هو أحد الهموم التي تشغل الصناعة حاليًّا، بوضوح تعاظَمَ بعد جائحة «كورونا» وما أسفرت عنه من حلول.

روى لي ناقد من جيل الرواد طريقة عمله عندما بدأ تغطية مهرجان «كان» قبل عقود. كان الناقد الكبير يصل إلى المدينة الفرنسية قبل عدة أيام من المهرجان، يشتري ثلاث نسخ من المجلات المتاحة كافة، يرسل اثنتين منها بالبريد السريع إلى صحيفته ويُبقي الثالثة معه. ومع بدء المهرجان، يُملي مقالته اليومية هاتفيًا على موظف في الجريدة (تحوّل لاحقًا إلى إرسال المقالة عبر الفاكس عند ظهوره)، ثُم يحدد الصور المرافقة للمقالة من المجلات التي أرسلها، وهنا يكمن سر إرسال نسختين؛ تحسبًا لضرورة استخدام صورة طُبعت على ظهر صورةٍ سبق استخدامها!

تعكس تلك الآلية صعوبة عمل الصحافي في عصر ما قبل الإنترنت، فكل هذه العملية اللوجستية يؤديها الكمبيوتر الآن في ثوانٍ. لكنها تُعبّر في الوقت نفسه عن أهمية الأمر لوسيلة الإعلام. هذه صحيفة تتحمل تكاليف سفر الصحافي وإقامته وأجره، وتتكبد عناء كل هذه الخطوات لقناعتها بأن وجود مراسل مباشر سيضمن لها تغطية خاصة تُميزها مِن منافسيها في أهم مهرجانات السينما في العالم.

اليوم لم يعد الأمر بالأهمية نفسها لوسائل الإعلام. لا يزال المهرجان مهمًّا لكن ليس إلى درجة تحمل كل تلك التعقيدات. الوكالات والمواقع العالمية ومنصات التواصل الاجتماعي تأتي بأدق التفاصيل لحظة بلحظة بوفرة تتجاوز قدرات أي صحافي ولو بلغت مهارته على التغطية ما بلغت، والرحلة ذاتها صارت مكلفة بما يفوق ناتجها، ولاسيما في عصر تقويم المواد بعدد النقرات لا بقيمة المحتوى.

النتيجة الآتي: عندما زرت مهرجان «كان» لأغطيه صحافيًا لأول مرة عام 2016 كنت أحد أصغر الصحافيين سنًّا، واليوم بعد قرابة عقد لا أزال مِن أصغرهم على رغم مناهزتي الأربعين. كثير من وسائل الإعلام صارت تُحجِم عن إرسال مندوبيها إلى «كان»، ومعظم الحاضرين من الأجيال الجديدة يتحملون معظم تكاليف الرحلة، إما أملًا في إرساء صورة مهنية أفضل عن أنفسهم، وإما بجمع التكاليف عبر نشر مقالات متناثرة في وسائل إعلام عدّة يُقبض أجرها بـ«القطعة»، أو تلبية حلم قديم بحضور المهرجان، يتحول بمجرد تحقيقه إلى فعل إدماني نكرره ولو اضطر بعضنا إلى الاقتراض من أجله.

لاحِظ أننا نتحدث عن عصر تغيرت فيه آلية الوصول إلى الأفلام؛ فإذا كانت الأعمال التي تُعرض في «كان» خلال القرن العشرين امتيازًا يحتفظ به الحضور أشهرًا طويلة حتى حين عرض الفِلم في بلادهم، وأحيانًا يغدو أبديًّا مع الأفلام التي يصعب عرضها محليًّا، فإن هذه «الحصرية» صارت اليوم ضربًا من الخيال؛ فلا تمر أسابيع من ختام المهرجان إلا يجد الجميع بعدها الأفلام متوافرة على المنصات الرقمية والمهرجانات السينمائية المحلية، حتى بالطرائق غير المشروعة لمن يرتضي استخدامها.

وإذا غابت قيمة حضور المهرجان الإعلامية، وتضاءل امتياز مشاهدة أفلامٍ لا يراها سوى الحضور، وتغيرت أشكال العرض بما يلائم سلوك مستهلكي عصر «اللوقاريثم» ورغباتهم، فما جدوى استمرار مهرجان مثل «كان»؟ وهل يأتي يوم قريب تختفي فيه مهرجانات السينما أو تغدو نشاطًا غرائبيًا يُمارس لأغراض الحنين إلى الماضي، كـ«سينما السيارات» و«أكشاك الموسيقى» وغيرها من أشكال العرض التي تجاوزها الزمن؟

السؤال عن مستقبل المهرجانات السينمائية هو أحد الهموم التي تشغل الصناعة حاليًّا، بوضوح تعاظَمَ بعد جائحة «كورونا» وما أسفرت عنه من حلول أُجبرت عليها المهرجانات، كإقامة نسخ افتراضية ونسخ هجينة وقياس مدى تفاعل الجمهور ومقارنته بالنمط الكلاسيكي. في العام الحالي كان «مستقبل المهرجانات» موضوعًا لجلسات نقاشية حافلة نظّمتها مهرجانات مثل «روتردام» في هولندا و«ساوث باي ساوثويست» في الولايات المتحدة، كما كان موضوعًا لدراسة استطلاعية أجراها معهد الفنون الكندي وأطلقها ضمن مهرجان «ويستلر» عام 2021.

الدراسة تخرج بنتائج تُثني على إقامة المهرجانات افتراضيًا، أو بنسخ هجينة تجمع بين تنظيم عروض جماهيرية وإتاحة الأفلام إلكترونيًا، وتضع صعوبة التفاعل الإنساني عائقًا أكبر لهذا الاتجاه، سواءٌ أتمثّل في صعوبة اندماج الجمهور في مناقشات الأفلام أم في قلة الفرص المتاحة للمواهب الشابة لـ«التشبيك» مع الأسماء المؤثرة من منتجين وموزعين. 71% من المشاركين في الدراسة ثمّنوا ما تتيحه التجربة من وصول أسهل للأفلام.

قد تختلف النتائج إذا أعيدت الدراسة بعد انجلاء الجائحة، لكن الشاهد أن التقنية تقود العالم بتسارع نحو تيسير تجربة الاستهلاك الفردي للمنتجات الإبداعية أكثر من المشاهدة الجماعية بأشكالها، ومنها المهرجانات القائمة بالأساس على اجتماع آلاف البشر عدة أيام وتعليقهم معظم أنشطة حياتهم من أجل الأفلام، وهذا أمر يصبح يومًا بعد يوم رفاهية يصعب أن يمارسها قطاع عريض من البشر، بمن فيهم الصحافيون والشبّان من صنّاع الأفلام. فالعالم الذي أقيم فيه أول مهرجان سينمائي في البندقية عام 1932 يختلف كليًّا عن عالم المنصات الرقمية والهواتف الفائقة الذكاء.

إلى أن تحين اللحظة، ويسفر الحراك العالمي عن شكل جديد للمهرجانات السينمائية، سيستمر المحظوظون منّا، ممن طاولتهم تجربة مهرجان «كان» الإدمانية، في توفير المال على مدار العام، من أجل الانغماس مدة أسبوعين في أكبر حدث عرفه الفن السابع.

الأفلامالسينما
النشرة السينمائية
النشرة السينمائية
منثمانيةثمانية

نحن ممتنون لزيارتك لمدونتنا، حيث ستجد أحدث المستجدات في عالم التكنولوجيا والابتكار. نهدف في هذه المدونة إلى تقديم لك محتوى ذو جودة عالية يغطي مجموعة واسعة من المواضيع التقنية المثيرة.jjcinema