الناشر المتباكي لا يحترم القارئ
يتعمَّد الناشر وضع القارئ في موقف لا يستطيع فيه المساس بالكتب العظيمة، مما يعوق تطوير الحسّ النقدي لديه.
يحظى الناشر بأقوى سلطة في سوق الكتاب العربي، فهو يختار الكتب والمترجمين ونقاط البيع ومعارض الكتب التي يشارك فيها، وبيده تسويق الكتب وغيرها من الصلاحيات. وعلى الرغم من ذلك، نراه الأكثر تباكيًا على حال السوق وعزوف القارئ عن الكتب الجيدة.
يتحدث بعض الناشرين عن المصاعب التي يواجهونها، وأبرزها صعوبة ترويج الكتاب الجيد، وأنه بلا سوق ولا قارئ، وعليه يضطر الناشر إلى نشر الكتاب الرديء الذي يحقق مبيعات وأرباحًا عالية ليتكفل بطباعة الكتاب الجيد. يرن جرس الريبة حين أسمع أوصافًا مثل جيد وسيئ. فما الذي يقصده الناشر بالكتاب الجيد؟ وهل يغيب عن ذهنه أن تفضيلاته الأدبية أو ما يتسق مع آرائه وأفكاره ليس «جيدًا» بالضرورة؟ وأنه ليس جيدًا للجميع وفي كل زمان؟
لا أنكر أنني أبتسم في كل مرة أسمع تذمُّر الناشر، وأرغب حينها لو أمسك بيده وأقول له بهدوء: عزيزي، أنت السوق، أنت من لك اليد الطولى في تغييرها وتوجيهها، أنت من لك خيارات كثيرة وبيدك التسويق. فهذه الجملة التي يكررها الناشرون دائمًا تشير إلى عدم إلمامهم بدورهم وبالسوق أساسًا، وعندما يتشكى أحدهم فلا أعلم ممن يتشكى بالتحديد، إن كان يرغب في نوع محدد يرتضيه من النصوص فعليه أن يعمل على ذلك. يستطيع إقامة الحملات التسويقية لمثل هذا النوع من الكتابة أو الرؤى، وإقامة الورش والندوات في سبيل الترويج لهذا الأسلوب الأدبي والفكري؛ لأن في ذلك مصلحته.
أما الاتكاء على شهرة كاتب محدد -بصرف النظر عن جودة نصوصه- لتمويل كتب أخرى فيدل على غياب المشروع الثقافي لدى الناشر، وأيضًا على عدم كفاءته كرائد أعمال. الأجدى الالتزام بتوجُّه واضح لإنجاح مشروع ثقافي ما أو الاستعانة بمتخصص اقتصادي أو متخصص في التسويق لإنجاح مبيعات الدار، والأفضل هو الوصول إلى صيغة تكاملية بين الاثنين.
فالاعتماد على أساليب الدور الحالية في التسويق له أضراره المباشرة، إذ نجد دور النشر تقتتل على حقوق بعض الكتَّاب الكلاسيكيين لمبيعات كتبهم العالية. فالقراء إلى اليوم يقبلون على كتب ديستويفسكي مثلًا لأنه مسوَّق له سلَفًا. ويتوهم بعض القراء أنَّ اهتمامهم بديستويفسكي اهتمامٌ بالأدب والثقافة الروسية، في حين أنه قد لا يستطيع تسمية رواية واحدة معاصرة أو روائي معاصر. وعليه يُغفِل مثل هذا القارئ أن هذا ليس اهتمامًا بالأدب الروسي، بل وقوعٌ في مصيدة «التكريس» التي تعدّها دور النشر، «تكريس» أسماء محددة وكتب بعينها.
وللتكريس أسبابه الكثيرة أيضًا، منها الجانب التسويقي، ومنها أيضًا توهُّم الناشر والناقد أحيانًا بفكرة «الأدب المعتَمد» (Literary Canon) و«العمق» ومصطلحات الدجل المبهمة الأخرى.
طريقة الترويج الأخرى هي أن يدعم الناشر غلاف الكتاب بشهادة من إحدى الصحف العالمية، كأن تقرأ على الغلاف الخلفي «رواية عظيمة» – القارديان، أو «أنجزت فلانة عملًا عظيمًا هنا!» – «ذا نيويوركر». ولا أعلم لماذا يجب عليََّ الأخذ برأي «القارديان» كحجة دامغة إزاء جودة عمل ما وهي كيان لا أستطيع الإشارة إليه، فأنا متأكد أنَّ «القارديان» لا تقرأ، بل خلفها أفراد لهم هذا الرأي. لكن الناشر العربي يرى أنَّ رأي هذه المؤسسات، على إبهامه، «مسمارٌ في لوح»، أو لعلَّه يرى القارئ «لوحًا».
فالناشر لا يرى القارئ شريكًا في النجاح إلا في الجانب الربحي فقط، وهذا متوقع مع غياب الرؤية الثقافية للدار التي تتجاوز ثنائية الجيد والرديء، القارئ هنا مجرد زبون محتمل، وغالبًا ما تروَّج له الكتب على طريقة: «نحن أعلم منك بما يفيدك». ولا يحترم الناشر القارئ إلا إنْ كان لهذا القارئ ثقل يمكن ترجمته بلغة السوق، كأن يكون نجمًا من نجوم القراءة أو النقَّاد المزعومين، وحديثه حول كتاب قد يزيد مبيعاته.
ومتى فشل «النجم» في إقناع شريحة تجارية «معتبرة» بشراء الكتب، يعود الناشر هنا للجوء إلى أساليبه التسويقية الكسولة التي تضمن درَّ الأرباح، مثل اللجوء إلى الكلاسيكيات وترويجها على أنها كتب عظيمة ينغمس القراء فيها للانضمام إلى نادي «القرَّاء الجادين» كي ينالوا احترام النجم والناقد المزعوم والناشر غير المكترث وبقية القراء التائهين.
هنا يتعمَّد الناشر وضع القارئ في موقف لا يستطيع فيه المساس بالكتب العظيمة، مما يعوق تطوير الحسّ النقدي لديه. وهذا هو السبب الرئيس الذي يعرقل نمو أعمال محلية حديثة ونضجها، لكن الناشر يفضِّل التباكي على ضعف السوق، والجري وراء كل فرصة لدعم حكومي أو خاص.
قد يكون ما أقوله غير دقيق أو خاطئًا، ولكن كيف لنا أن نعرف والناشر على هذا القدر من عدم الوضوح؟!
نشرة أسبوعية تتجاوز فكرة «أنت تستطيع» إلى «كيف تستطيع» تحقيق أهدافك وتحسين نمط حياتك.