هل يستبدل الذكاء الاصطناعي الكاتب؟
تحتاج الأسئلة العلمية إلى شيءٍ من العتمة تتحرَّك فيه، ذاك أنَّ «أضواء الشو الإعلامي» هي في الغالب الأعمّ قاتلةٌ لكلّ تفكير وتجريبٍ حُرَّين.
منذ أسابيع يشغل السَّاحةَ الثقافية والإعلامية الفرنسية، من بين ما يشغلها من قضايا الذكاء الاصطناعي وتطبيقاتُه العديدة، تحدٍّ وضعَه المفكر الفرنسي رافاييل أنتهوفن: أن يكتب مقالة إجابة عن موضوع الباكالوريا هذه السنة لمادة الفلسفة، ويطلب من الذكاء الاصطناعي أن يفعل الشيء نفسَه، ثم يُعهَد بالموضوعين إلى مصحِّحين ليميزوا بين الموضوعَين ويقارنوا بينهما، ويكشفوا مِن ثَمّ «العملة الزائفة» من «العملة الصحيحة».
بغض النظر عمّا ينطوي عليه المقترح من أسئلة وإشكالاتٍ تمسُّ الإنسان أولًا قبل أن تمس الذكاء الاصطناعي، وأولها إشكالية سعي الإنسان الدائم إلى مقايسة نفسه بغيره من الذكاءات، وكأنها تشكل تهديدًا دائمًا لمملكته (هل يمتلك الحيوان ذكاء؟ هل يملك النحل لغةً؟ هل للحيوانات مجتمعات؟ هل تستطيع الآلة أن تعوِّض الإنسان؟) إلا أنَّ الجدير بالملاحظة هو الميل السائد نحو «صناعة الفرجة»، نحو تحويل كل شيء إلى «شو إعلامي».
فالأكيد أنَّ التحدي الذي طرحه أنتهوفن لا يسعى إلى تغذية النقاش الدائر حول الذكاء الاصطناعي، ولا هدفه دراسة علمية لتطبيقاته ونتائجه في الكتابة الإنشائية الفلسفية، بقدر ما يهمه أن يكون موضوعًا إعلاميًا و«فُرجويًا» بالدَّرجة الأولى. فالمصححون، في حالتنا هذه باتوا يعرفون أنهم جزء من اللعبة، ويصححون الورقتين بهدف تمييز هذه من تلك، ومِن ثم فإن فعلهم بات محكومًا بمسبقاتٍ تؤطِّره وتتحكَّم فيه، شعوريًا ولاشعوريًا.
يزداد ذلك ترسّخًا بمعرفتهم الوثيقة بصاحب التحدِّي وأسلوبه، فلئن كان الذكاء الاصطناعي منفتحًا على التطوُّر في اتجاه التخلص من شوائبه «الأسلوبية» أو بالأحرى «اللاأسلوبية» التي تفضح طابعه اللاإنساني، فإنَّ الذكاء الإنساني يصعب عليه أن يتخلص من تميزه الأسلوبي، ومِن ثم قد يتحوَّل التحدي إلى كشف أسلوب أنتهوفن بدلًا من كشف ورقة الذكاء الاصطناعي. وحتى إن تجاوزنا هذا المعطى واستطاع المصحِّحون أن يتخلصوا من مسبقاتهم تلك، وتصحيح الورقتين بكلِّ موضوعية، فإنهم لن يتخلّصوا أبدًا من وعيهم بأنَّهم جزء من لعبة ومن تجربة، وأنَّ لهم هدفًا محدَّدًا.
لو كان لي التفكير في صياغةٍ للتحدي لفكَّرت في تحدٍّ لا يُسلَّط عليه أيُّ ضوء: ماذا لو دسسنا عمدًا بين أوراق الممتحنين أوراقًا كتبها الذكاء الاصطناعي، ويراجعها المصحِّحون بوصفها أوراقًا لمتعلِّمين؟ أو على الأقل لو طلبنا من مصححين تصحيح ورقة أنتهوفن وورقة الذكاء الاصطناعي بوصفهما ورقتين جيدتين، كتبهما تلاميذ، واحتار المصحِّحون في تنقيطهما؟ ألن تكون النتيجة أوثق وأكثر مصداقية وأقدر على استحثات الإنتاج والتحليل والتفكير؟ ثم يأتي بعد ذلك أنتهوفن ليصرِّح بأنه قدَّم تجربة وكانت نتائجها كذا وكذا… سيكسب «الشو الإعلامي» آنذاك كلَّ مصداقيته ما دام يأتي في وقته المناسب، أي لاحقًا للحدث، وليس سابقًا له.
إن كانت الأسئلة العلمية تنير عتمة دروب العالم فإنّها تحتاج إلى شيءٍ من العتمة تتحرَّك فيه، ذاك أنَّ «أضواء الشو الإعلامي» هي في الغالب الأعمّ قاتلةٌ لكلِّ تفكير وتجريبٍ حُرَّين، لكن لعلَّ المقصود من تجربة أنتهوفن شيءٌ آخر غير الإسهام في نقاش الذكاء الاصطناعي، فهو وجهٌ تلفزيونيٌ معتاد على الأضواء قبل أن يكون مفكرًا وفيلسوفًا ممن «لا يستيقظون حتى منتصف الليل» بتعبير هيقل، ومِن بعده دولوز!
تنويه:
كُتبت المقالة قبل ظهور نتيجة الاختبار، وقد ظهرت النتيجة وسط «شو إعلامي» يليق برافاييل أنتهوفن، وإكمالًا للشو حصل الذكاء الاصطناعي على نقطة متوسطة: 11 من 20، وربما كان ذلك تأكيدًا لوضعيته المتوسطة بين الآلة والإنسان؛ فلا دقة حسابات الآلة شفعت له، ولا تشبُّهه بملكة الذكاء الإنساني نفَعه!
أمّا رافاييل أنتهوفن فحصل على نقطة 20 من 20! حرصًا ربما على تأكيد التفوق، وبيانًا أنَّ القائمين على التحدي اختاروا لمجابهة الآلة إنسانًا «خارقًا»، إنسانًا من أولئك الذين لا يقبلون الفوز في نتائج الانتخابات بأقل من 99 في المئة من الأصوات!
قد نحتاج مساحة شاسعة ووقتًا طويلًا للتفكير في العبارة العجيبة التي أعلن بها أنتهوفن نتيجة التحدي: «لقد سعيتُ إلى أن أبيِّن أنَّ الفلسفة ليست مسألة عقلٍ بقدر ما هي مسألة قلب!». لكن لسنا نحتاج كبير جهدٍ لنقف على عبثية المسلَّمة التي صارت تلوكها الألسن بعد التحدي: «هزمناك أيها الذكاء الاصطناعي!»
نشرة أسبوعية تتجاوز فكرة «أنت تستطيع» إلى «كيف تستطيع» تحقيق أهدافك وتحسين نمط حياتك.