الجنون كله يصب في «بذيخة»

إن فلم «راس براس» محاولة ممتازة وناجحة من مالك نجر لتجسيد شخصيات كأنها كرتونية أو مقتبسة من القصص المصورة، بكتابة جيدة وممتعة جدًا.

مالك نجر من نخبة العصر الذهبي في منصة يوتيوب من 2010 إلى 2014. ومنذ تلك الأيام، لم يتوجه مالك نجر إلى العالم الحقيقي بل إلى العالم الافتراضي، عالم «الأنيميشن». هناك أصبح يروي قصصًا مضحكة وجريئة عبر «مسامير»، ولا أستطيع نسيان قصة «فتاة البيز» التي جعلتني أذرف دموع حزن تحولت إلى دموع ضاحكة. 

مر الوقت وصدر فلم «مسامير» في 9 يناير 2020، ولا أنسى سعادتي عند حضوري الفلم في إحدى صالات السينما، لأني شهدت بدايته في منصة يوتيوب وأراه أمامي بجودة إنتاج أعلى وقصة أطول وعلى الشاشة الكبيرة،

ماذا بعد؟ نصل إلى اللحظة التي قرر مالك نجر فيها أن يخرج من العالم الافتراضي ويتحدى نفسه بالعالم الواقعي كمخرج، ومن خلال عمل كتبه عبدالعزيز المزيني. فيا ترى كيف كانت الرحلة؟ 

قاعدة الجنون: اكسر روتين مدة الأفلام 

فلم «راس براس» لم يسلك طريق «الترند» في مدة الأفلام، بل جعل مدة الفلم تصل إلى ساعة و34 دقيقة «يعيّشك» فيها القصة بشكل متواضع. وبعد إنتهاء الفلم ستشعر بأنك تريد المزيد من هذا العالم بدلًا من التشبع من العالم والأفلام والمسلسلات وربما الحياة (أمزح!) 

فنحن الآن نعيش فترة سينمائية رائعة جدًا، انتعشت بإصدار الأفلام القوية على الصعيد المحلي («الخلَّاط» و«سطار») أو العالمي («إير» و«المهمة المستحيلة» و«أوبنهايمر» و«باربي») 

القاسم المشترك بين هذه الأفلام العالمية محاولتها التنافس على المُدد الطويلة، مدة «أوبنهايمر» ثلاث ساعات، ويصل فلم «المهمة المستحيلة» إلى ساعتين و46 دقيقة. ودعوني أذكركم أنَّ فلم «Killers of the Flower Moon» ستصل مدته إلى 3 ساعات و26 دقيقة

«بذيخة» هي العاصمة السرية للجنون 

من المؤكد أنك لاحظت حديثي هنا عن الجنون عدة مرات، بدايةً دعني أقول إن «بذيخة» مكان حقيقي، وبناءً على ما يُنسب إلى كاتب قصة الفلم، يُقال إنه وجدها عبر خرائط قوقل (مصدر التغريدة). 

بعيدًا عن الهزلية، منطقة «بذيخة» غير مناسبة للعيش فيها؛ لأن من ظروفها الطبيعية أن تجد هنالك سيارة تصدم سيارة أخرى، ويخرج إليك أناس يحملون أسلحة للقتال. تزور مركز الشرطة للإبلاغ عن هذا المنظر، فتجد أن المركز مهجور ويعيش فيه مجرمون، وتفر منه هاربًا إلى فندق يسمح بدخول الجثث وكل الممنوعات، ويحذرك من إدخال «البطاريق» في شقتك!

شبيه «بذيخة» مقارنة مع العوالم الأخرى هو مدينة «آركام» التي يقاتل بها باتمان الأشرار، طبعًا الفرق الوحيد أنك لن تجد بطلًا يتجول بين شوارع «بذيخة».

يأخذني هذا إلى النقطة التالية، وهي طريقة الإخراج والكتابة التي تضفي على الفلم النكهة الإخراجية للقصص المصورة.

طريقة كتابة الشخصيات 

أسعدني رؤية شخصيات نابعة من قلب السعودية ممزوجة بطريقة القصص المصورة، وأول دلالة على هذه النكهة طريقة تعريف الشخصية وتقديمها بالاسم وماذا تفعل. 

مثال:

الاسم: «فياض» ومهنته «مدير الصيانة». 

هنا نجد هذه الشخصية تحاول إقناع شخصية مصرية الجنسية بمحاولة تشليح سيارة وتبديل قطع رخيصة بقطعها! ويجد نفسه فجأة منتقلًا من مكالمة طرد من وظيفته إلى ترقيته إلى منصب رئيس تنفيذي للشركة! 

مثال آخر: 

الاسم: «درويش» ومهنته «سواق»

هو على أبواب الخطوبة، ويشارك صورته بمسدس مع والد خطيبته! ومن مشوار للشركة حتى يستقيل ويأخذ مستحقاته، يجد نفسه يوصل شخصًا بالخطأ هو في الحقيقة زعيم عصابة كان مسجونًا في روسيا! 

العشوائية المضحكة والتصعيد الذي يحصل للشخصيات يذكرنا بالقصص المصورة والكوميديا التي تجلبها إلى الطاولة. ويذكرني أسلوب تقديم كل شخصية بالمخرج كونتين تارانتينو وفلمه «أوغاد مجهولون» (Inglourious Basterds).

وأيضًا، لو قيل لي إن شخصيات فلم «راس براس» هي شخصيات «مسامير» الكرتونية وجرى تحويلها إلى حقيقة سأقول إنها كانت محاولة ناجحة. ولذلك أسأل: هل يعد «مسامير» جاهزًا لتحويل شخصياته إلى العالم الواقعي؟ الإجابة عندي بسيطة وهي «نعم»! 

طريقة المؤثرات والتوجه الفني 

عالم «بذيخة» عالمٌ خطر مليئ بالجرائم، ولا تستطيع التحدث عن «ولد الديمن» فيه لأن الاسم بحد ذاته يجلب المخاطر! ويوضِّح تصميم الأماكن مدى خطورة «بذيخة»، فمن طبيعة هذا العالم أن المباني محروقة ويفتقر إلى الإضاءة، وأرجع مجددًا إلى تشبيهي إياها بمدينة «آركام». 

في أي حدث يتضمَّن اقتتالًا بين طرفين، مثلًا «مضاربة الكفوف»، يستعير الفلم تأثير القصص المصورة بعرض كلمات مكررة ومنسوخة على الشاشة «كف كف كف»، مع تمثيل الشخصيات لهذه الأوضاع بأسلوب هزليّ وغير جاد، ويتعمَّق هذا التأثير بالمؤثرات الصوتية والموسيقا. 

أداء الممثلين في سباق الجنون

لا أود التقليل من شأن طاقم التمثيل، لكني لاحظت فرقًا وتفاوتًا عاليًا في الأداء، وإن أردت إنشاء استعارة لتوضيح الأمر فستكون: السباق إلى «بذيخة».

في مقدمة السباق: يلمع عبدالعزيز الشهري ومحمد القس

عبد العزيز الشهري حاليًا هو أفضل من يجسد الكوميديا على الصعيد المحلِّي، فهو يؤدي كل دور مكتوب له بشكل صحيح. وحتى إن كانت الكتابة عادية فإن أداءه يزيد من قيمة الشخصية. (مثال سريع: شخصيته في فلم سطار). 

عندما يظهر عبدالعزيز الشهري لا يفشل المشهد في إضحاكي، حتى إن كان المشهد مشتركًا مع بقية الطاقم، إذ ينجح في إنعاش المشهد والنتيجة تكون «ضحكة» لا مجرد ابتسامة بسيطة، أو بعبارة أخرى: لن يكون وجهي عبارة عن «Poker Face».

وعلى جانب «اللمعة» الآخر يظهر محمد القس بفخامة شخصيته وهو يجسد الشر في أعلى القصر وحوله الحراس المرعوبون منه. وأيضًا يتضح مدى برودة دمه في القتل. وعند ظهور القس في كل مشهد نتلقى فعلًا درسًا فاخرًا في تجسيد شخصية شريرة، وكذا في كل مشهد يحتوي على الصمت والخوف وهدوء ما قبل العاصفة. 

في منتصف السباق: عادل رضوان وهاشم هوساوي

على رغم أهمية شخصية عادل رضوان، إلا أنه منذ بداية الفلم، وعلى مدى تفاعلاته الكثيرة مع عبدالعزيز الشهري، شعرت بكثير من اللحظات التي يشابه فيها «الشمعة المنطفئة»، ولم يستطع مواصلة إشعال شمعته حتى نهاية الفلم. فحزنت حقيقةً، لأن شخصيته مكتوبة بطريقة «حلوة». 

جسّد هاشم هوساوي الجنون بطريقة مضحكة، ولكنه لم يأخذ حقه الكافي من الكتابة. أعلم أن شخصيته ثانوية وليست أساسية، لكن المشاهد كانت مجنونة، وكان بالإمكان كسر الحاجز أكثر في كتابة «سب أو شتم» بطريقة مضحكة أكثر. 

الواصلون متأخرين إلى خط النهاية: زياد العمري وخالد عبدالعزيز وآيدا القصي 

زياد العمري من الممثلين المبدعين في أدوار عديدة جسّدها في «الخلاط» و«الجذري»، لكني لم أستطع الشعور بأدائه التمثيلي الممتاز الذي عهدناه منه في هذا الفلم.

خالد عبدالعزيز من الأشخاص المفضلين إليّ وهو يتحدث في أي موضوع، فطريقته مميزة ومضحكة جدًا، والشخصية كانت مكتوبة له فعلًا، لكن أداءه لم يستطع جلب تلك الشخصية التي كانت فعلًا «غاضبة ولا تهتم بأي شيء». 

آيدا القصي كان تفاعلها مع عادل رضوان ضعيفًا جدًا، حيث لم أشعر بقوة العلاقة بينهما في الفلم. إذ من المفترض أنهما فعلًا يتبادلان الحب، لكني حزنت لأنّ هذه العلاقة لم تُسرَد وتجسَّد بشكل ممتاز. 

العودة من «بذيخة» إلى الرياض

أستطيع القول إن فلم «راس براس» محاولة ممتازة وناجحة من مالك نجر لتجسيد شخصيات كأنها كرتونية أو مقتبسة من القصص المصورة، بكتابة جيدة وممتعة جدًا تحمل مدة زمنية رائعة. 

ولمن يعشقون لغة الأرقام: التقييم الشخصي هو 10/6.

السعوديةالسينمامراجعات الأفلام
النشرة السينمائية
النشرة السينمائية
منثمانيةثمانية

نحن ممتنون لزيارتك لمدونتنا، حيث ستجد أحدث المستجدات في عالم التكنولوجيا والابتكار. نهدف في هذه المدونة إلى تقديم لك محتوى ذو جودة عالية يغطي مجموعة واسعة من المواضيع التقنية المثيرة.jjcinema