فرصتك الأخيرة في كتابة أدب الخيال العلمي

إلى أن نستقبل أول وفد من مخلوقات الفضاء لا تزال الفرصة متاحة لكتابة بضعة نصوص «كلاسيكية» تنتمي إلى جنس الخيال العلمي كما عرفناه يومًا.

على أيامنا، عندما كانت «الببسيَّة» بريال، تطلَّع الأدباء والمبدعون إلى «عام 2000» كعنوان للمستقبل الواعد، بكل ما سيجلبه من دهشة وروعة.

لكن بين غمضة عين والتفاتتها صار عام 2000 في الماضي. كثير من الأعمال التي عُنونت أو بُنيَت حبكتها وفق ذلك التاريخ انتقلت من رفوف الخيال العلمي إلى الكوميديا، ربما باستثناء فلم «أوديسة الفضاء» (2001: A Space Odyssey)، وهذا ما يعزز القاعدة الروائية: الواقع أشد إدهاشًا من المتخيَّل. 

لوهلة يبدو أن كل الخيارات التقليدية في قائمة أفكار الخيال العلمي تفقد صلاحيتها تباعًا؛ فالوصول إلى الفضاء الخارجي الذي تنبأ به جول ﭬـيرن منذ 1865 في روايته «من الأرض إلى القمر» (From the Earth to the Moon) تحقق وسنحطُّ على المريخ قريبًا. وإذا كنت عزيزي القارئ تعتقد أن الهبوط على القمر تمثيلية فلعل المحطات الفضائية وآلاف الأقمار الاصطناعية التي تدور حول الأرض تكفي لإقناعك بتحقق حلم غزو الفضاء. أما إذا كنت تعارض دوران أي شيء حول الأرض لأنها في ظنك مسطحة لا كروية فأرجو أن تتوقف عن قراءة المقالة وترجع لمتابعة تحديَّات تك توك.

ماذا أيضًا؟ الذكاء الآلي كما بشَّرت به أعمال روبرت سوير وفيليب كيه دِك؟ حصل بشدة. وها نحن أولاء نعايش تطور خوارزميات تقلدنا في كل شيء، وقد تخرج عن سيطرتنا كما حذَّر الأمين العام للأمم المتحدة مؤخرًا.

عندك أيضًا رقمنة المعلومات ونقل الذاكرة البشرية بأكملها إلى المخازن السحابية. فعلتها أمازون وقوقل! زرع شرائح إلكترونية في الدماغ لتخزين الأحلام؟ إيلون مسك «شغَّال عليها». 

ماذا عن العلاج بالتعديل الجيني والحواسيب الكمومية والحديقة الجوراسية والسيارة الطائرة؟ كله تحقق أو كاد. يوشك أحدنا أن يجزم بأن «ثيمات» الخيال العلمي ما عادت خيالية ولا مدهشة.

بالنسبة إليّ كانت القاصمة حين جاء في الأخبار أن الحكومة الأمريكية تخفي أدلة على وجود مخلوقات فضائية، ويبدو أننا سنشهد في حياتنا التطبيع الرسمي للعلاقات مع سكان الكواكب الأخرى. وهكذا فاتتك الفرصة لأن تبني مجدك الأدبي على قصة أبطالها زوار من خارج الأرض: «قديمة.. إلعب غيرها»! لقد خرجت هذه الثيمة أيضًا من نطاق الخيال العلمي، وستصير دراما اجتماعية رمضانية ربما تدور حبكتها حول قضية تكافؤ نسب. 

هل يعني هذا أن أدب الخيال العلمي قد مات ولم يعد له مستقبل، بما أن كثيرًا من الأحلام الشاطحة التي راودت الكتّاب والمخرجين تحققت بفضل التطور التقني؟ بالعكس! بل إن أدب الخيال العلمي، كإطار فكري وإبداعي، قد يشهد بعثًا جديدًا؛ لأنه سيمثل سعينا الجديد وراء المعنى ومحاولتنا لفهم واقعنا الذي تشكّله التقنية بكل تجلياتها. إنه الواقع الذي تتماهى فيه هوياتنا الرقمية مع وجودنا المادي، وتتشكل فيه أخلاقنا وقيمنا ومسؤولياتنا افتراضيًا عبر مجتمع هائل زاخر صاخب، إنما لا وجود حقيقي له، اسمه «الشبكة»!

هذا الواقع الوهمي صارت فيه الزوجة الروبوتية حقيقية وحفظ الأحلام ممكنًا وحبك للبرقر ذا أبعاد بيئية وسياسية. وصارت أسئلته الأساسية حول قيم الأشياء ومعانيها أشد إلحاحًا مما كانت زمن أرسطو

فلنطرح هنا عدة تساؤلات تصلح أفكارًا لأعمال تبدو لأول وهلة موغلة في الخيال، لكنها مرتبطة جدًا بالواقع الجديد. 

مثلًا، في ظل السعي العلمي الحثيث إلى فك سر الموت ومضاعفة متوسطات أعمارنا -تحقَّق ذلك بالفعل خلال المئتي عام الأخيرة– فما ميزة «العافية» إذا اختفى المرض؟ هل ستؤدي إطالة العمر إلى تحويلنا إلى كائنات مسوّفة ذات نزعة إبيقورية لا همَّ لها إلا السعي وراء المتعة؟ وإذا كان إنسان المستقبل القريب سيعيش مئة عام في المتوقع فكم ستكون فترة طفولته ومراهقته ومتى يجدر به أن يتزوج ويتوقف عن الإنجاب؟ وما علاقة ذلك كله بسوق العمل واقتصادات الادخار والتقاعد والتوزيع العادل لثروات الأرض التي تنوء حاليًا بحمل ثمانية مليارات إنسان؟ لم يكن الكوكب يومًا مزدحمًا بالبشر كما هو اليوم! 

تساؤل آخر: ما معنى «المعرفة» ومحركات البحث متاحة للجميع؟ وما قيمة الخبرة الأكاديمية وكل الإجابات موجودة على النت؟ ولماذا نكتب ونتعامل بالأبجدية إذا وسعنا أن ننتج مقاطع فيديو؟ أصلًا ما الجدوى من التوثيق والتذكر تحت ظل السحابة الإلكترونية؟ وإذا حصلت جائحة إلكترونية ما واختفت معظم ملفاتنا المحفوظة لسبب أو آخر فهل يوازي ذلك فقد الذاكرة البشرية؟

ما تعريف «الوعي» والأهلية، وما قيمة أن تولد آدميًا إذا كان بوسع الآلة أن تطور وعيًا خاصًا بذاتها الافتراضية وكينونة بنسخ لا نهائية تضمن لها عمرًا لا حد له، بل تأبى عليك أن تضغط زر إيقاف تشغيلها؟ وإذا أقنعت الآلة الذكية القاضي في المحكمة بأنها «كائن» ذو وعي وأهلية كاملة وبأنها تؤمن بوجود الله فهل يعد إيقاف تشغيل تلك الآلة الذكية بمثابة فعل القتل؟ ثم ما معنى الموت إذا أمكنك يومًا أن تنقل كامل ذاكرة دماغك إلى قرص صلب وتعيد تحميلها إلى جسد آخر ليواصل حياتك أو حياته؟!

ما المغزى من الحب والصبر والتضحية في عصر الآلة الجنسية التي ستبرمج ذاتها وفقًا لمزاجك اليومي؟ ما حقيقة «الحريّة» تحت إشراف خوارزميات الأخ الأكبر؟ وما معنى «الوطن» لمن سيولد وينشأ في مستعمرة المريخ القادمة؟

هل سيتغير تعريف «الوقت» لأن يوم المريخ أطول من يوم الأرض؟ وما تعريف «الزمن» لمن سينام اصطناعيًا لمدة 500 سنة في رحلة فضائية طويلة، ثم يستيقظ ليجد نفسه في العمر ذاته؟ وكيف سيصوم سكّان مستعمرة القمر دون استطاعتهم تحرّي رؤية الهلال؟

ثم إذا ثبت كما يقولون في الأخبار أن هناك مخلوقات عاقلة مكلَّفة غيرنا فما مفهومهم عن الإله وأركان الإيمان الغيبية الأخرى؟ وكيف سيعيد ذلك كتابة تاريخنا البشري وموقعنا في منظومة الكون؟

تلك كلها وسواها باتت أسئلة أشد ارتباطًا بواقعنا من الثيمات الروائية التقليدية المكرورة حول الحب والفقد والاغتراب الداخلي.

قديمًا كنا نقرأ لشيكسبير والعقاد والجاحظ كي نطوِّر ذخيرتنا الأدبية وأدواتنا الإبداعية، لكن الخيال العلمي الموغل في ما وراء الحقيقة صار يفرض علينا أن نستوعب أفكار آينشتاين وشراودينقر وقوانين آزموڤ وموور كي نناقش الأسئلة الوجودية أعلاه. 

هل من قبيل السخرية أن حبكات كارتون «ريك آند مورتي» (Rick and Morty) ومسلسل «بلاك ميرور» (Black Mirror) باتت أقدر على مقاربة الواقعية السحرية من أعمال ماركيز، وأقدر على وصف أزماتنا الذاتية من كتابات دُستويفسكي الخالدة؟

عمومًا، إلى أن نستقبل أول وفد من مخلوقات الفضاء لا تزال الفرصة متاحة لكتابة بضعة نصوص «كلاسيكية» تنتمي إلى جنس الخيال العلمي كما عرفناه يومًا. وباستثناء بقاء فكرتي السفر عبر الزمن والانتقال الآني المستحيلتي التحقق، حتى الآن، وعدم وجود دليل قاطع على وصول زوار من الأبعاد الموازية، فإن كتابة عمل خيالي علمي مدهش وأصيل لم تكن بمثل هذه الصعوبة والإثارة قط. وتلك هي عظمة الأدب: في تجدد قدرته على إعادة شرح العالم كلما تطورت وسائل إدراكنا. 

الخيال العلميالفضاءالمستقبلالكتب
نشرة إلخ
نشرة إلخ
كل يوم خميس منثمانيةثمانية

نشرة أسبوعية تتجاوز فكرة «أنت تستطيع» إلى «كيف تستطيع» تحقيق أهدافك وتحسين نمط حياتك.