هل لديك حجرة للعجائب الاجتماعية؟
من اللافت عودةُ الاهتمام بحجرات العجائب لدى عددٍ من المبدعين والدّارسين مؤخرًا، عودة تهتم باستعارة معناها في إبداعات أو دراسات.
انتشرت خلال عصر النَّهضة الأوربية ظاهرة متاجر أو حجرات الغرائب الاجتماعية. فمع مدِّ الاكتشافات الجغرافية وغزو المناطق الأخرى من العالم وتوسُّع شبكة التبادلات انتشرَ بين أغنياء أوربا الولع باقتناء غرائب وعجائب آتية من العالم الآخر، أي خارج أوربا.
كان الأغنياء من أبناء فلورنسا وغيرها يشترون شتَّى الأشياء ويخصّصون في منازلهم مساحاتٍ، غرفًا أو دواليب، لعرض مقتنياتهم، بحيث صارت لديهم فقرةً ثابتة أثناء استقبال أي ضيف وإطلاعه على ما يمتلكونه من أعاجيب. وفي تلك المساحات كانت تتجاور شتَّى الأشياء بغض النظر عن تنافرها وانتمائها إلى سجلات متبانية (بيضُ طيورٍ غريبة أو حشرات أو هياكلُ مجفّفة أو ريش أو شظايا مذنّبات أو أحجار غريبة أو نباتات…)، أي شيء، المهم أن يتوافر فيه شرط الغرابة وإمكان العرض.
من اللافت عودةُ الاهتمام بحجرات العجائب لدى عددٍ من المبدعين والدّارسين مؤخرًا، عودة لا تعني دراسة تاريخ هذه الحجرات أو دلالاتها وأبعادها خلال عصر النهضة بقدر ما تهتم أساسًا باستعارة معناها في إبداعات أو دراسات.
قد يكون أول نموذجٍ يقفز إلى ذهن المتلقي هو سلسلة «حجرة العجائب» للسينمائيّ المكسيكي قييرمو دِل تورو، التي عرضتها منصّةُ نتفلكس وقدّمها المخرج في شكل دولاب عجائب في كل مرةٍ يُخرج منه عجيبةً ويعرضها كمقدمة لحلقة من حلقات مسلسله المصنَّف في خانة مسلسلات الرُّعب.
أصدر عالم الاجتماع الفرنسي المعاصر جيرالد برونر كتابًا بعنوان «حجرة العجائب الاجتماعية» (Cabinet de curiosités sociales)، يرمي فيه، على غرار أثرياء عصر النَّهضة، إلى عرض ما تصيَّدَه من عجائب اجتماعية. على أنّنا نتحدّث هنا بالطبع عن سياق مختلف؛ فلا يتعلّق الأمر بعالمين: عالم «مَرْكز» يتأمّل عالمًا آخر «هامشيًا» تفصله عنه مسافةٌ جغرافيةٌ وربما تاريخية. بل إنَّ الدَّارس هنا يشاركنا العالم نفسَه والملابسات نفسها، فمن أين له تصيُّد هذه الغرائب؟!
جواب برونر: مِن العالَم نفسه.
إنَّ العالم الذي نحيا فيه ينطوي على قدرٍ غير يسير من العجائب التي يحجبُها عنا التعلُّق بالقضايا الكبرى والممارسات الأكاديمية المتعارف عليها. Click To Tweet
إنَّ عالِم الاجتماع، الذي لا يبيّن في كتابه ما إذا كان يختار منهج التفسير (الذي يدَّعي العلمية) أو يتوسّل بمنهج الفهم (الذي يمنح مساحةً للتأويل الذاتي)، يعمد في كتابه المذكور إلى بناء حجرة تضمّ عدة دواليب، كل دولابٍ منها يعرض صنفًا من العجائب: عجائب الحياة اليومية وعجائب دماغنا؛ عجائب الحياة السياسية وعجائب التطرّف وعجائب الحياة الثقافية وعجائب السذاجة وعجائب الإعلام وعجائب كوكب الأرض وعجائب الحياة العلمية…
وفي كل دولابٍ منها يعرض لمجموعةٍ من العجائب والأسئلة: لماذا على الكائنات الفضائية أن تكون صلعاء؟ هل الحيوانات كائناتٌ بشريةٌ كغيرها؟ أي علاقة قد تجمع بوتين بباربرا سترايزند؟ هل كانت «عائلة سيمسون» على اطلاع؟ ما المثير في الاهتمام لدى سياسيّ؟ لماذا تجعلنا وسائط التواصل الاجتماعي تعساء؟ من الأقوى أثرًا: الفراشة أم الفأر؟ لماذا معظم الكُرات في الألعاب الجماعية دائرية؟…
أسئلة تبدو غريبة عن مواضيع علم الاجتماع المعتادة وأيضًا عن المتداول، لكن تكفي قراءة مقالة من فصل واحد من الكتاب لنتبيَّن أنّ الأمر لا يتعلق حقًا بعجائب بقدر ما يتعلّقُ بمهملاتٍ وبموضوعاتٍ، لفرط اعتيادها وهامشيَّتها، غطَّاها الابتذال وما عُدنا نفكِّر فيها.
صحيحٌ أنَّ التفكير في أسئلة كهذه يصعب أن تَنتُج عنه معرفةٌ مؤسَّسَةٌ؛ لأنّ أغلبها لن يراوح طور التأمّلات الذاتية. لكنْ قد يكون هذا هو الغرض الأساس من هذا الكتاب ومن كل الكتابات التي تتوسَّل باستعارة حجرة العجائب: ليس الغرض، هنا، إنتاج معرفة صلبة مشتركة بقدر ما هو حثٌّ على استعادة الدَّهشة إزاء العجيب، هذا العجيب الذي لم يعد اليوم ينتمي إلى منطقة «اللامُكتشف» بقدر ما يختفي في ثنايا الظَّاهر والاعتيادي.
إنَّ عالمًا كعالمنا، ما انفكَّت دائرة المعرفة فيه تتَّسع، لا بدَّ أن تتَّسع فيه أيضًا دائرة المجهول؛ مجهول لا ينتمي إلى عالمٍ بعيدٍ مفارق، بل يسكُن في ثنايا عالمنا، وليس لنا إلّا أن نتأمَّل في تلك الثنايا لكي نستخرج «عجائب» تؤثث حجرة كلَّ واحد منا!
نشرة أسبوعية تتجاوز فكرة «أنت تستطيع» إلى «كيف تستطيع» تحقيق أهدافك وتحسين نمط حياتك.