فلم «Past Lives» لا يشبه قصص الحب

هذا العمل يختلف تمامًا عن قصص الحب التي تخرج من قعر حلق الظروف المتعسرة، كخِطبة ولي العهد الياباني آخيتو لفتاة من عامة الشعب.

تقول الفتاة المخلوقة من الثلج في إحدى مسرحيات ألكسندر أوستروفسكي، بعد أن مسَّها أول شعاع للربيع:

أنا أحب، وأنا أذوب، وليس في الإمكان أن أحب وأوجد معًا. لا بد من الاختيار بين أمرين، وجود دون حب، أو حب دون وجود، وذلك هو الموت في مطلع الربيع.

وهكذا كانت شاعرية قصة «نورا» بصديق طفولتها «سونق هاي» الذي تركته وتركت كوريا برفقة والديها وهي على مشارف المراهقة، قبل 24 عامًا، في فلم «Past Lives» للمخرجة سيلين سونق.

كان «سونق هاي» أشبه بالشعاع الذي يجب تفاديه في القصة أعلاه، وفي الوقت نفسه كان الجذور الوطنية التي كانت تغذيها سرًا في الغربة التي اصطفتها مهجَرًا تحقق فيها أحلامها المتمنِّعة التي أخذت تقضمها السنوات على مهل. كان هو بهجة روحها وصديقها الأثيري ورفيق ثرثرتها الفنية، والعائق، في الوقت نفسه، الذي كانت تظنه حائلًا يقف بينها وبين مستقبلها الذي مُلئ بالنفعية التي دفعت مقابلها عدة انعتاقات. أحدها الانعتاق عنه ثلاث مرات رافضةً طبيعة حبه الانهمارية، وتقبُّلها الخيار الأدنى منه كقناعة عقلانية متنكرة للعاطفة. 

لم تكن قصة الثنائي في هذا الفلم رومنسية أو إصلاحية كالقصص التي ذُكرت وأُحصيت وقُتِلت ذكرًا، ولربما بدت في الوهلة الأولى كتلك التي لاكتها ألسنة السينما والتلفزيون. إلا أنك بعد بلوغ فترة زمنية يسيرة في أثناء مشاهدتك ستجد أنها قصة أُجبرت على أن تكون في قالب الصداقة الطامعة، أشبه بالقبلة المطبوعة بتوتر اللقاءات، ما بين الخد وطرف الشفاه!

ولعلي استسخفت في البداية التواد بينهما المرتكن على ذكريات طفولة عابرة شحيحة لامست أطراف المراهقة، مقترنة باللعب العابر والتنافسية في أثناء الدراسة، حتى سألت: كيف لهذا الحب ألّا تنضب نشوته؟ ما الذي جعل كل واحد منهما يبحث عن الآخر على رغم التسامي العقلي المقترن بالنضوج والاتساع الجغرافي والفجوة الزمنية الهائلة والاختلاف في الشخصيتين؟

لم أجد تفسيرًا منطقيًا أو عقلانيًا حتى ذكر البطَلان في أكثر من موضع مفهوم الكلمة الكورية البوذية المنشأ التي يؤمنان بها «إين يون»، التي تعني: إن سار غريبان معًا وتلامست ملابسهما فهذا يعني أن بينهما قاسمًا مشتركًا في حيواتهما السابقة. وقيل أيضًا: إن تزوَّجَ شخصان فهذا بسبب ثمانية آلاف وجود من مستوى «إين يون» بينهما على مدار ثمانية آلاف حياة سابقة!

هذا ما يفسر المحاولات المكررة من الطرفين لاستنهاض علاقة نجحت في العوالم التي اقترنا فيها وفق دورة كينونتهما حسب الاعتقاد البوذي، على رغم الاختلاف الكبير بين شخصياتهما، والذي أسقط في الفلم الذي رشحته نورا لـ«سونق هاي» (Eternal Sunshine of the Spotless Mind)، والذي يتحدث عن افتراق متحابين لا يكفان عن إزالة ذكرياتهما عن بعضهما طبيًّا بعد كل خلاف، لتجمعهما الأقدار مجددًا بصورة أو بأخرى. 

كأن لسان قلبيهما يردد ما قاله البردوني في إحدى قصائده: «نطير إلى الآتي ونخشى غيوبَهُ، نفرُّّ من الماضي ونهفو إلى الرُّجعى.» 

نلحظ مدلول هذا البيت في الفلم بصورة التنازع العاطفي والتفكر والتأمل في اللحظات الصامتة حيال العلاقة المتباعدة، حتى في اللقاء الذي حصل بعد أربعة وعشرين عامًا، بعد زواجها من حبيبها الأمريكي «آرثر»، حيث يظهر كل شيء بشذوذ طريف مطابق للاعتقاد البوذي الغريب. فمعظم مشاهد التنزه في أثناء زيارة «سونق هاي» لـ«نورا» في نيويورك كانت محاطة بثنائيات رومنسية، كصورة تَمَنَّعت على الطرفين ولم تتحقق.

حتى في صورة استحضار ذكريات طفولتهما، كانت خلفهما لعبة «دوامة الخيل» ممتلئة بالأطفال الذين يخلقون ذكرياتهم بالتزامن!

الزواج يحضر في هذا الفلم كإحدى المبالغات المثمنة لقيمة العلاقة الراهنة. فلا ينفع للصداقة النفعية أن تبقى على حالها، ولذلك نطعِّمها بالامتنان وننزلها المنزلة التي نظن أنها تستحقها في بيت الحب والزواج. 

وهذا ما يفسره مارسل بروست في فلسفته المعبرة عن وهم إيجاد الحب الذي نكنه في ذواتنا:

لو أن أحدهم قام بتحليل أمين ودقيق لأدرك مدى تفاهة السبب أو الأسباب التي من أجلها وقع اختياره على تلك المرأة، أو ذلك الرجل، فلو أنهم مثلًا اختاروا مصيفًا آخر أو التحقوا بكلية أخرى، لو أنهم اعتذروا عن حضور تلك الحفلة، لو أنهم ركبوا قطارًا آخر، لتغيرت كل حياتهم العاطفية تغيرًا كليًا شاملًا.

معنى هذا أنَّ:

توافقنا مع أحدهم يتعلق بنا نحن وبحبنا لذاتنا فحسب. وهذا ما أتفق معه، وما اتفق معه أيضًا زوج «نورا» حين وضَّح لها أنه الطرف الثالث المخرب، كما لو كان العثرة التي سببت ضياع حب طفولتها، بعد أن تلمَّس إعجاب زوجته بصديقها «سونق هاي». Click To Tweet

ولعل نزعته الأدبية أوجدت في خياله عقلانية «الدروب المغايرة»، كأن يجد قصتها معه مبنية على مصلحة تامة. 

فإن تحدثنا عن لقائهما وفقًا لفلسفة بروست فقد التقيا في سكن الفنانين ثم تعاشرا بسبب الوحدة لا لشيء آخر، ثم انتقل كلاهما إلى العيش في نيويورك معًا لتوفير ثمن الإيجار، ثم تزوجته «نورا» مستعجلة لتحصل على الإقامة الدائمة!

في أحد المشاهد يسألها الزوج «آرثر»: «ماذا لو قابلتِ شخصًا غيري في السكن؟ ماذا لو كان هناك كاتب آخر في نيويورك قرأ كل الكتب التي قرأتِها وشاهد الأفلام التي شاهدتِها وكان ينصحك في مسرحياتك ويستمع إلى شكواك من بروفاتك؟» 

هذا الوعي الذي أدركه الثلاثي حضر متأخرًا بلا محاولة لتعديل أي مسار، وكأن المرحلة العمرية والظروف كانت تُصَعّب على الجميع عملية التعويض؛ إدراكٌ متأخر لا يسعف ما حصل، ولا توجد آلية لاحتمالية التصحيح. وهذا هو النضج الحقيقي في الفلم المجسِّد للقطبين حين يرضخان لهذا الطور الفاتر من الحب.

نجحت المخرجة سيلين سونق في تمرير الخيبة التي خيّمت على الجميع، وأفلحت في التعبير عن الفرصة الضائعة القابلة للضياع المضاعف. وفي تقديم الحب كقوة «تركيعية» لا تعترف بالظروف التي ظننا أنها ستقهره. وأعجبني جدًّا النمط الحواري الثنائي في هذا العمل الذي كنت أجده في أعمال إنقمار برقمان، الذي يشبه إبداعُ سيلين إبداعَه وكأنها تتلمذت على نصائحه، إذ كتب في دفتر ملاحظاته:

«سيكون هناك كثير من الحوارات المثيرة التي تظل عالقة في الذهن، ولن يكون هناك شيء على الإطلاق خارج المألوف، سأتخيّل سلسلة مشاهد من الزواج.»

وفعلًا، كان لحوارات فلمه (Scenes from a Marriage) وقع مثير للنفوس وأظنه استوحاه من علاقته الفاشلة بحبيبته أولمان. وتحضرني من عمله العبارة التي قالها الزوج لطليقته بعدما خسرها معبرًا عن صعوبة تعويضها:

«لن أحب أحدًا كما أحببتك، أتذكر أن أحدهم قال إن الحب الأول يشبه شريطًا لاصقًا تنتزعينه ثم تحاولين إعادة إلصاقه، قد يلتصق ثانية لكنه لن يكون كالمرة الأولى.»

هذا تشبيه بليغ يوضح أن المتحابين لا يدرك أحدهما قيمة الآخر إلا بعدما تُختبر علاقتهما، وذلك تمامًا ما أدركته «نورا» بعدما عاد إليها حبها الأول. ولكن إن فكرنا في الأمر فسنجد أن لكليهما أهدافًا لا يستطيع الآخر احتواءها. 

فأحدهما، برأيي، ينتظر أن يودع قواه الخاصة في الآخر، وأما الآخر فينتظر أن تُستوعب مواهبه الخاملة، وكأن هناك من خُلِقَ «مجعولًا» للآخر كتضحية زوجية لمن يتسلح أكثر بالأحلام المستقبلية. وهذا سبب محتمل يجعلنا نمتن للقدر الذي قد يفرقنا من أجل الإبقاء على الود الأبدي.

وأخيرًا، هذا العمل، وإن صنف كدراما رومنسية، يختلف تمامًا عن قصص الحب التي تخرج من قعر حلق الظروف المتعسرة، كخِطبة ولي العهد الياباني آخيتو لفتاة من عامة الشعب، أو كحكاية ديانا والطبيب الهندي. هو عمل احتوائي يجد العامة سلواهم فيه، وتعاسة حظهم كذلك.

السينماالعلاقات الإنسانيةمراجعات الأفلام
النشرة السينمائية
النشرة السينمائية
منثمانيةثمانية

نحن ممتنون لزيارتك لمدونتنا، حيث ستجد أحدث المستجدات في عالم التكنولوجيا والابتكار. نهدف في هذه المدونة إلى تقديم لك محتوى ذو جودة عالية يغطي مجموعة واسعة من المواضيع التقنية المثيرة.jjcinema