قسوة محتوى الجرائم في فيسبوك تنافس المسلسلات
الإنسان يميل إلى مشاهدة أخبار الحوادث والعنف سواء أكان ذلك بشكل متخيل أم واقعي؛ لأن هذا يمنحه الفرصة لمواجهة مخاوفه.
أشاهد أفلام الجريمة، إلا أنني أبتعد قدر الإمكان عن الأفلام والمسلسلات الوثائقية التي تتناول قصص الجرائم الحقيقية والتي أصبحت منتشرة مؤخرًا عبر مختلف المنصات الرقمية، آخرها «سفاح الجيزة». وعلى رغم حرصي ألا أشاهد هذه الأعمال ولو على سبيل الفضول، تفاجأت بأن هناك محتوى مشابهًا يبث بعيدًا عن تلك المنصات، لكنه أشدّ قسوة ولا إنسانية.
خلال تصفحي فيسبوك فوجئت بسلسلة فيديوهات تقدم محتوى عن أشهر الجرائم التي حدثت في مصر والوطن العربي. بدأ المقطع الأول بصورة حقيقة لسيدة مبتسمة في هدوء ويُسمع معها صوت المقدم: «اللي في الصورة دي اسمها… وقصتها…» يتضح من حديث الرجل أن تلك السيدة قُتلت رفقة أطفالها على يد عمال دهانات طمعًا في المال.
لم تمر إلا أيام ووجدت سلسلة أخرى أشدّ قسوة، إذ يُستخدم الذكاء الاصطناعي لصناعة فيديو يظهر خلاله الضحية ويحكي كيف قُتل بالتفصيل ذاكرًا عشرات التفاصيل المرعبة والمرهقة نفسيًا.
تخيلت للحظة لو أنني من أسرة أحد الضحايا، من المؤكد أن ظهور هذه المقاطع أمامي سيثير داخلي مشاعر الحسرة والحزن والشجن التي هربت منها لسنوات. فهل فكّر مقدم المحتوى أو المشاهدون في هذا الأمر؟ لا أعتقد.
يشرح الطبيب النفسي ديفيد هندرسون أن الإنسان يميل إلى مشاهدة أخبار الحوادث والعنف والدمار سواء أكان ذلك بشكل متخيل أم واقعي؛ لأن هذا يمنحه الفرصة لمواجهة مخاوفه وهو لا يزال ينعم بمستوى جيد من الأمان.
يشبه الأمر أن تنظر من خلال الزجاج إلى أسد شرس في حديقة الحيوان، فهذا الوضع يسمح لك بالتفكير في عدد من السيناريوهات المختلفة في ذهنك: إذا كنتُ في هذا الموقف فماذا أفعل؟ هل أستطيع النجاة؟ وهذا يساعدك على التوفيق بين ما لا سيطرة لك عليه وشعورك النفسي بأنك المسيطر.
هذا يفسر ملايين المشاهدات التي تحظى بها هذه المقاطع، لكن ما لا يمكن تفسيره هو عدم وجود معيار أخلاقي ثابت أو قانون صارم يمنع تناول صور وأسماء الضحايا والجناة. وإذا كانت هناك فائدة لسرد تلك القصص بغرض نشر الوعي بين الناس فلا فائدة إذن من ظهور الأسماء والصور الحقيقية لأشخاص تعرضوا للتعذيب أو الاغتصاب أو القتل.
هذا تحديدًا ما تحرص عليه السينما والدراما، حيث يوضح الناقد الفني المصري محمد عوض أن محتوى الجريمة يمثّل بُعدًا عامًا يهم المجتمع بأكمله، ومن حق السينما تناوله، لكنّ هناك شرطًا أساسيًا هو عدم استخدام تفاصيل شخصية تدل على الجاني أو الضحية:
«هذا تحديدًا ما فعله نجيب محفوظ في فلم “اللص والكلاب” حيث قدم معالجة درامية لجريمة حقيقية لكنه لم يستخدم أي تفاصيل شخصية تدل على هوية المجرم الحقيقي.»
هذا ما لا نجده في أفلام الجرائم الوثائقية، إلا أن بعض صنّاع تلك الأعمال يتعامل مع الأمر بشكل إنساني، حيث يشارك أسر الضحايا صناعة الأفلام. هذا ما فعله الكاتب والمنتج نيل مكاي الذي يعتقد بأن أعمال الجريمة الواقعية يمكن أن تفيد الضحايا وعائلاتهم بشرط استشارتهم طوال الإنتاج.
هذا لا يعني أن دراما الجريمة بلا عيوب، ففي عام 2016 بثت قناة «آي تي في» (ITV) مسلسل «ذ سيكريت» (The Secret) عن طبيب أسنان إيرلندي قتل زوجته. إلا أن الابنة عبرت عن معاناتها بعد إصدار هذا المسلسل الذي صوّر أمها ربة منزل محطمة كئيبة، وغفل عن توضيح طموحها وروح الدعابة التي تتمتع بها وشخصيتها القيادية، وكان رد صنّاع العمل أن هذا جزء من البناء الدرامي.
هذا «البناء الدرامي» قد يزيف الواقع والتاريخ كليهما، لذا يحتمي صناع الدراما بجملة «مستوحى من أحداث حقيقية»، حتى لا يتعرضوا للمقاضاة من أشخاص قد يظهرون في الأعمال بشكل مغاير للواقع، فقط من أجل «البناء الدرامي» المزعوم.
الآن، وأنا أقرأ هذه الجملة المكتوبة بخط صغير «مستوحى من أحداث حقيقية» تحت عنوان مسلسل «سفاح الجيزة»، لا أدري إن كانت تخفف من قسوة «محتوى الجرائم» في فيسبوك واللاإنسانية في متعة مشاهدتها.
نحن ممتنون لزيارتك لمدونتنا، حيث ستجد أحدث المستجدات في عالم التكنولوجيا والابتكار. نهدف في هذه المدونة إلى تقديم لك محتوى ذو جودة عالية يغطي مجموعة واسعة من المواضيع التقنية المثيرة.jj