صباح الجن والعفاريت!

من وسائل الاحتيال الجديدة التي عم بها البلاء تلك التي تمارسها فئة يمكن أن أطلق عليها اسم «رُقاة التك توك»، يقرؤون وينفثون ويخرجون الجن.

ارتبط وجود النصابين وممارسة الاحتيال بوجود الإنسان على هذا الكوكب، ولا أعلم على وجه اليقين متى وقعت أول عملية احتيال، لكن الذي لا شك فيه أن الفاعل كائن بشري وضحاياها كانوا هم أيضًا كائنات بشرية. والمحتال يعتمد في عمله على أمرين مهمين، الأول غباء الضحية، والثاني -وهو الأهم- حاجة الضحية. ويمكن أن يكون السبب الأول كافيًا وحده دون عوامل مساعدة، أما الثاني فإنه يوجِد الأول ويستحدثه أحيانًا من العدم. الحاجة وحدها كانت سبب كثير من الرزايا والموبقات، والتصرف بغباء واحد من تلك الرزايا. 

ولأن الحياة أضحت أسهل فهذه السهولة متاحة أيضًا للمحتالين؛ فالمحتال اليوم لا يبذل كثير جهدٍ للوصول إلى ضحاياه، والقنوات الإعلامية، حديثها والجديد، وسيلة رائعة لممارسة الاحتيال، ولكن تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي جعلت الأمر متاحًا للجميع، وأصبح الاحتيال مغريًا إلى درجة أنه أمسى هوايةً لا فائدة مرجوة منها سوى تزجية الوقت والتسلية. 

المحتالون الأوائل كانوا يمارسون الاحتيال لكسب قوت يومهم، ويجتهدون في ذلك للوصول إلى حياة أفضل وأشدّ رخاءً. وهذه غاية موجودة لدى المتأخرين من النصابين والدجالين، لكنها لم تعد الغاية الوحيدة. 

وإن قلنا: إن حاجة الضحايا هي أحد أمرين يعتمد عليهما «النصاب» في عمله، فإن استغلال حاجة المرضى أقبح وأنذل ما يمكن أن يصل إليه «النصاب». إنها المرحلة الأشد دناءة في عالم الاحتيال الواسع، وهي كذلك الطريق الأسهل الذي يمكن عبوره دون عناء إلى «جيب» الضحية. 

كم مرةٍ شاهدتَ في وسائل التواصل وصفات طبية لكل الأمراض التي اكتشفها البشر؟! 

اسحق جذر شجرة التوت في كوب من عرق الحوت وسيقضي ذلك على آلام المفاصل والتهابات القولون! أو اجمع بذور الصندل واخلطها بلعاب نمر حزين وستشفى من السرطان! اضغط على مفصل خنصر رجلك اليسرى مدة خمس دقائق مرتين كل يوم وستصلك رسالة بإضافة خمس سنوات إلى عمرك الافتراضي. 

حين تكون سليمًا معافى لن تلتفت إلى مثل هذه الرسائل وستمر عليك أحيان كثيرة دون أن تتوقف عندها أو تعيرها اهتمامًا، لكن مهما كانت مناعتك الفكرية فإنك حين تعاني من مرض ما قد تتوقف لحظة وتتأمل وتفكر في الموضوع، وإن كانت المعاناة أصعب ولم تجد ما يخفف عنك آلامك ولم تنفعك الأدوية التي يعطيك إياها الأطباء فإنّ نسبة تجربتك لأي من تلك الوصفات سترتفع، حتى تجد نفسك دون وعي تبحث عن أنياب لبوة أرملة لتمزجها بدموع تمساح وتسفّها على الريق مع الحبة السوداء وعسل الكزبرة. 

يعاني أحد أبنائي الصغار من صدفية تنتشر أحيانًا في جسده كله بما في ذلك وجهه، وقد بحثت كثيرًا لدى كل الأطباء عن دواء يخفف الأعراض، ولم يُفلح بحثي كثيرًا، وحين بدأت معه إضافة إلى المعاناة الجسدية آثار نفسية بسبب تنمر زملائه في المدرسة الابتدائية وابتعادهم عنه وخوفهم من الاقتراب منه بدأتُ أنسى تدريجيًا كثيرًا من قناعاتي؛ فلو قابلت محتالًا مكتوبًا على جبهته أنه محتال وتحتها تحذير من التعامل معه ثم قال لي إن لديه علاجًا فعّالًا لاستمعتُ إليه دون شك، ولَما ترددتُ كثيرًا في تجربة العلاج الذي سيصفه لي. 

ومن وسائل الاحتيال الجديدة التي عم بها البلاء تلك التي تمارسها فئة يمكن أن أطلق عليها اسم «رُقاة التك توك»، يقرؤون وينفثون ويخرجون الجن ويفكون السحر ويعالجون الأكمه والأبرص من خلال بثوث «التك توك»، ويفعلون ذلك إيمانًا بـ«التكبيس»، واحتسابًا بالدعم «واللايكات»، ويعطون تعليمات وأدعية تعالج كل الأمراض المستعصية وغير المستعصية والمستوطنة والعابرة للقارات. والناس عمومًا، والمرضى على وجه الخصوص، يميلون إلى تصديق كل شيء يتعلق بالقرآن الكريم وآياته ولو كان استخدامها بطريقة رقاة «التك توك» مما لم ينزل به سلطان ولم يقم عليه دليل لا من القرآن ولا من السنة ولا حتى من «كاتلوج» الجهاز الذي يبث منه الراقي.

Giphy 108
قدرات سحرية / Giphy

تجده مرة ينصحك بأن تقرأ سبع آيات من البقرة وثمانيًا من الحجرات وتسعًا من الدخان وتنفث في قارورة ماء وتشتري عسلًا من مخازن الراقي (الشحن مجاني)، ثم تدور في المنزل سبع مرات، وستخرج الأمراض التي تعاني منها أنت وأسرتك ومعارفك من «الشبّاك»! وتجده في أخرى يؤلف لك طلاسم وأدعية ويخبرك بأنها وحدها ما سينقذك مما تعاني، أيًا كان ذلك الذي تعانيه.

وحين تشاهد الآلاف يستمعون إلى مثل هذا «الهبد» ويصدقونه، وتجد أن هؤلاء «الهبّيدة» يستطيعون بيع أي شيء على جموع الغرقى الذين يبحثون عن قشة للتعلق بها فلا تستغرب؛ فإن الحاجة تُعمي العقل وتبني حاجزًا أمام التفكير المنطقي. 

وعلى أي حال.. 

إني وإن كنت أتمنى الشفاء لكل المرضى وأن يرفع الله البلاء عن كل محتاج ومكروب إلا أني لا أنكر أني أفكّر جديًّا في ممارسة هذا النوع من الاحتيال؛ فانتظروني قريبًا في بثٍّ على إحدى منصات التواصل، أنفث وأطرد الحسد وألاحق الجن والعفاريت بهراوة غليظة صباح مساء. ولن يكون «صباح الجن العفاريت» إلا مؤشرًا مبكرًا إلى أن كثيرًا من الأموال في الطريق، وهذا هو المهم!

الإنسانالمجتمعتك توكالرأي
نشرة الساخر
نشرة الساخر
منثمانيةثمانية

نحن ممتنون لزيارتك لمدونتنا، حيث ستجد أحدث المستجدات في عالم التكنولوجيا والابتكار. نهدف في هذه المدونة إلى تقديم لك محتوى ذو جودة عالية يغطي مجموعة واسعة من المواضيع التقنية المثيرة.jj