اركد قليلًا أيها العادي!

في زمن الفضاء المفتوح لم تعد عاديًا كما ينبغي لك أن تكون؛ فالناس يردون عليك في وسائل التواصل وكأنك المتحدث الرسمي باسم الوطن.

أتمنى أن يأتي ذلك اليوم الذي يحتفل الوطن بعيد توحيده رقم 10000، وهو عظيم شامخ كبير معطاء كما كان منذ أن تشكلت ملامح حدوده على وجه الأرض. وكلما دعوت الله طالبًا تحقيق أمنيتي هذه أدركت أنها بعيدة جدًا ولن أكون موجودًا فأشعر بشيء من الضيق والكدر؛ لأني أريد أن أكون موجودًا دائمًا في كل فرحة للوطن.

ولكني أخفف عن نفسي هذه الضيقة حين أتذكر أن العروض التي ستقدمها الشركات في اليوم الوطني رقم 10000 ستكون مرهقة أكثر من قدرة رجل متقاعد للتو يبلغ من العمر عشرة آلاف عام على تحمّلها. سيبيعون الأشياء التي كانوا يبيعونها بمئة بعشرة آلاف ضمن عروض اليوم الوطني. وقد حدثت لي في العام ما قبل الماضي حادثة طريفة في ذا السياق؛ فقد أرسلت إلي إحدى مغاسل السيارات المتنقلة التي أتعامل معها عرضًا حصريًا لا يمكن تفويته، وعرضوا عليّ غسيل سيارتي بواحد وتسعين ريالًا فقط ولفترة محدودة بمناسبة الاحتفال باليوم الوطني، وهو عرض مغرٍ دون شك، مشكلته الوحيدة أنهم كانوا يقدمون لي هذه الخدمة مقبل ثمانين ريًالا قبل تلك العروض. 

كنت أظن أن مثل هذه الأمور يتم تداولها من باب التندر والاستظراف وأنها يصعب أن تحدث، وبعد أن حدثت لي أصبحت أنظر إلى عروض الشركات و«الدكاكين» في اليوم الوطني بشيء من الريبة، وحين أفكر في الشراء أنتظر إلى أن تنتهي عروض اليوم الوطني. 

وبغض النظر عن فكرة تذكر أمجاد الوطن وانتصاراته ورموزه العظام فإن فكرة الاحتفال وإشاعة الفرح في حد ذاتها جميلة أيًا كانت المناسبة، وحين يكون المحتفى به هو الوطن فإنها تزداد جمالًا. وقد كنت واحدًا ممن نظموا احتفالات بهذه المناسبة في المكان الذي أعمل فيه، وفعلت ذلك بحب ورغبة صادقة في أن يكون مبهجًا وأن يغادره كل الحاضرين عند نهايته وهم سعداء فخورون بوطنهم وتاريخه وإنجازاته ورموزه العظماء. 

مفهومي لفكرة الاحتفال أن تهيأ أماكن يأتي إليها الناس ويشاركون فيه ويظهرون بهجتهم وسعادتهم بأنهم جزء من هذا الوطن العظيم، ثم يعودون إلى منازلهم في هدوء وسكينة، أما فكرة اللف والدوران في الشوارع وإغلاق الطرقات والتضييق على خلق الله وتعمد أذية الناس فتلك أمور لا علاقة لها بالبهجة ولا بالسعادة ولا الفرح ولا الاحتفال. 

في هذا اليوم يفترض أن الإحساس بالمواطنة وقيمة الوطن مرتفعة إلى أعلى مستوياتها، إلى درجة أن يتعامل الناس مع كل الأشياء بحب، وأن يكون رجال الأمن في هذا اليوم أقل الناس عملًا؛ لأن الناس في حالة عشق مع وطنهم تجعل الإيذاء فكرة غير محتملة، لكن المشكلة أن بعض هؤلاء «العشاق» يجعلون من هذا اليوم أحد أصعب أيام عمل رجال الأمن. 

حين ترفع العلم العظيم بيد وتوسخ الشارع باليد الأخرى فأنت بحاجة إلى تدخّل عاجل يشرح لك مفهوم حب الوطن. ربما تحتاج إلى إعادة برمجة بعض المفاهيم لديك ولو من طريق فتح الجمجمة وغرس مفهوم المواطنة يدويًا داخل عقلك. وحين «تشغل» أغنية وطنية حماسية وتصبغ وجهك باللون الأخضر وترسم على جبهتك سيفين ونخلة ثم تغلق الشارع وتؤذي المارة فإن الوطن لو نطق لطلب منك أن تريحه من عناء محبتك؛ لأنها ترهقه لدرجة أنه قد يتمنى أن تكرهه وتبقى في منزلك وسيكون ذلك جميًلا لا ينساه لك، بل ربما عد ذلك دليل محبتك له وتضحيتك وخوفك عليه حتى من نفسك؛ وهذه أعلى مراتب الوطنية وحب الوطن. 

ومع أهمية الاحتفالات ورسم السعادة على وجوه الناس فإن محبة الوطن عمل مستمر طوال العام، يكمن في كل تفاصيل حياتك، في أمانتك وفي الإخلاص في عملك وفي الحفاظ على الممتلكات العامة وفي أن تكون سفيرًا لأسرتك في الحي وسفيرًا للحي في المدينة وسفيرًا لمدينتك ومنطقتك في بقية الوطن وسفيرًا لوطنك في كل أصقاع المعمورة.

Giphy 112
أصبحت محتوى / Giphy

من الوطنية أن تحاول ما استطعت إلى ذلك سبيلًا أن تتعامل مع الفضاء المفتوح بحذر؛ لأن عملًا صغيرًا تافهًا قد تفعله وأنت تعتقد بأنه لن يراه إلا أصدقاؤك في الاستراحة قد يصبح حديث العالم، وهذا من مساوئ وسائل التواصل؛ ، لأننا في زمن قد يكون فيه الانطباع عن شعب كامل بكل حضارته وتاريخه مبنيًا على مقطع أو عبارات قالها شخص لا تكاد تعرفه أمه. 

مما يؤسف له يا صديقي العادي أنك في زمن الفضاء المفتوح لم تعد عاديًا كما ينبغي لك أن تكون؛ فالناس يردون عليك في وسائل التواصل وكأنك المتحدث الرسمي باسم الوطن، وكما تشتم الآخرين بالجملة لأن شخصًا عاديًا مثلك شتمك أو أساء لوطنك أو لشيء تحبه فإن الآخرين سيشتموننا وهم يردون عليك؛ لأنك كما تعمم حين ترد فإن العاديين يفعلون حين يردون عليك!

لا أحد فيما يبدو ضد أن ترقص وأن تغني وأن تفرح، ولكن لا تجعل تعبيرك عن سعادتك سببًا في تعاسة غيرك، حتى لو كانت تعاسته تكمن في تأخيرك إياه عن شراء كيس خبز!

السعوديةالمجتمعالرأي
نشرة الساخر
نشرة الساخر
منثمانيةثمانية

نحن ممتنون لزيارتك لمدونتنا، حيث ستجد أحدث المستجدات في عالم التكنولوجيا والابتكار. نهدف في هذه المدونة إلى تقديم لك محتوى ذو جودة عالية يغطي مجموعة واسعة من المواضيع التقنية المثيرة.jj