«إهانة غير ضرورية» رواية المخصيِّين في الحرم

يمنح إياد عبدالرحمن الصوت وحق الرثاء الذَّاتي والكشف عن أثر الرق والعبيد والتمييز العنصري وجراحه الممتدة لجماعة «الأغوات».

في نشرة إلخ من ثمانية

إذا سلمنا بمقولة الروائي التشيكي ميلان كونديرا إن «الرواية التي لا تكشف جزءًا من الوجود ما يزال مجهولًا هي رواية لا أخلاقيَّة» فإن رواية إياد عبدالرحمن «إهانة غير ضرورية» الصادرة عن منشورات تكوين هي رواية أخلاقية بامتياز، فقد عرَّت جسد التاريخ وكشفت تجاوزاته المسكوت عنها  لسببٍ أو  لآخر. 

يمنح إياد عبدالرحمن الصوت وحق الرثاء الذَّاتي والكشف عن أثر الرق والعبيد والتمييز العنصري وجراحه الممتدة لجماعة «الأغوات»، وهم رجال مخصيّون من الأحباش قدموا إلى المدينة المنوَّرة ومكة المكرَّمة لأعمال خدمة الحرمين الشريفين كغسل المطاف وتنظيف الفضلات وخدمة زوار الحرمين من المعتمرين والحجاج وأسياد الدول والوفود المرافقة لهم وفصل النساء عن الرجال في الطواف وتنظيف الحجرة النبوية وحراستها في المسجد النبوي. 

وينتقل الكاتب في الرواية بين الزمن الماضي والحاضر، ويسرد أحداثها بضمير المتكلم، ويخضع الرواية لمنطق السرد الروائي الذي لا يعتمد على التسلسل الزمني المنطقي كما في التسلسل التاريخي. فنجد الكاتب يقدم الحاضر ويؤخر الماضي، وتارة يفعل العكس بما يخدم سير الأحداث بالرواية. 

أمَّا العنوان «إهانة غير ضرورية» فقد اختاره إياد عبدالرحمن تأثرًا بنص لمايا أنجلو في سيرتها الذاتية: 

إن كان خوض الحياة كشخص أسود أمرًا مؤلما وصعبًا جدًا، فإن معرفة أن هذا الدور لا يليق بك هو شعور أشبه بشفرة صغيرة وصدئة تجزُّ عنقك ببطء.. إنها فقط إهانة غير ضرورية!

وهذا ما ستؤكد عليه الرواية منذ البدء وحتى النهاية، فكل ما يجري في حياة الصبي الحبشي ما هو إلا مسيرة من الإهانات العبثية. فهو مهان من العالم الذي يعد كل تجاوز مستساغًا ومقبولًا لكونه أسود، ومهان من عائلته التي عزمت على بتر جزء من جسده طمعًا في التبرك بخدمة الحرمين الشريفين.

تنطلق شرارة الأحداث أو «لعنة آدم وخسَّة الجهل» من حلم زار والدته في منامها، رأت من خلاله ابنها «آدم» يقف بجوار فتيان يرتدون ثيابًا برَّاقة، ويملأ وجهه اللمعان وشعره خالٍ من تراكمات الغبار والأتربة على غير العادة، وفي آخر المنام ثلاثة رجال أشداء ببشرة بيضاء يخبرونها بأنَّ طفلها ذا التسع سنوات وُلِد مباركًا. 

ولا مباركين في أرض الحبشة إلّا من فقدوا ذكورتهم وذهبوا صوب الأراضي المقدسة ليكرسوا حياتهم في خدمة الحرمين الشريفين. وجدتْ الأم في الحلم إشارة مباشرة ونبوءة لا يمكن أن يمسها تشكيك، وطلبًا ربانيًا صريحًا يحثها على ضم ابنها آدم إلى جماعة «الأغوات». 

ما كان يعيق تحقق تلك النبوءة هو عضو آدم الذي يخالف شروط الانضمام لجماعة «الأغوات» في الأراضي المقدسة؛ إذ يستوجب على الفرد أن يكون مخصيًّا لا يشتهي النساء ليتمكن من الالتحاق بهم. ولأن والدته آمنت بأنّ النبوءات لا تكذب وأمر الله لا يُعصى سعت جاهدة لنزعه واستعانت بقابلة القرية لتغرس سكينها عميقًا فيه وتصب الزيت المغلي، لتتخثر دماء جسده ويبقى نزف إنسانيته وطفولته المنهوبة يتدفق أبدًا. 

بعد مضي أيّام قليلة من إخصاء «آدم» انتزعته والدته وقادته رفقة القابلة لتطبيب الكيّ بين قدميه بعجينة من الطين والزيت ولفه داخل نسيج من الخيش كان يستخدم لنقل الشعير، لتشده على ظهرها وتشق طريقها رفقته قاصدة ميناء «عَصَب»، ليلتحق بالركب المسافر بحرًا صوب «الشرق» وتقدمه هبة وعطية لله ولبيته الحرام. 

مع أن الرواية تمنح صوتها لآدم فإنها لا تقتصر على الأغوات وحدهم، بل هي تعرِّي أيضًا كل أشكال الإخصاء المعنوي الذي قد يمارسه المجتمع ضد آدمه المرغم على ما لا يريد وما لا يعرف، آدمه الذي يضطر إلى التخلّي عنه ليكون مقبولًا في مجتمعه، والذي سيظل ما بقي يحنُّ إلى ما تخلَّى عنه.

«إهانة غير ضرورية» رواية يسلط فيها إياد عبدالرحمن الضوء على المناطق المعتمة في التاريخ ويسد الثغرات المتروكة منه، ويبني عالمه الروائي بدقة عالية بالرغم من شح المصادر التاريخية التي تناولت حياة «الأغوات». Click To Tweet

لتغدو روايته صادقة ومقنعة لك.

الإنسانالتاريخالروايةالعنصريةالكتب
نشرة إلخ
نشرة إلخ
كل يوم خميس منثمانيةثمانية

نشرة أسبوعية تتجاوز فكرة «أنت تستطيع» إلى «كيف تستطيع» تحقيق أهدافك وتحسين نمط حياتك.