«The Creator» ملحمة مبهرة تفتقر تفوُّق الأداء البشري

تندلع شرارة التهديد لوجودنا البشري في فلم «الخالق» (The Creator) حين تبدأ أقليَّة «الذكاء الاصطناعي» ترى نفسها مع الوقت كفصيلة «بيولوجية».

ماذا بيد أي فصيلة أن تفعل حين تُهدَّد الحظوة «البيولوجية» التي كَفَلتْ لها الأرض والأمان وسعة الرزق، أمام إقصاء قسري مُتَعمَّد من أقليَّة متفوقة تدفعها نحو مسيرة الانقراض؟

تندلع شرارة هذا التهديد لوجودنا البشري في فلم «الخالق» (The Creator) حين تبدأ أقليَّة «الذكاء الاصطناعي» ترى نفسها مع الوقت كفصيلة «بيولوجية» أكثر من كونها آلات من صنع البشر. ليرينا الفلم صورة مصغرة عمّا كنا نفعله نحن البشر عبر التاريخ تجاه الأعراق المغايرة، أو الأقلية المخرِّبة على الأكثرية، حين كنا ندفعها نحو جرف الانقراض بحجة التفوُّق عليها. 

منذ المشاهد الأولى نعيش استمرارية الاستدعاء التاريخي للذاكرة البشرية الملأى بالندوب والمدعوكة بدايةً بمواجع صور كارثتي هيروشيما وناغازاكي، ولاحقًا بمشاهد قصف فيتنام المكثف بقذائف النابالم. كأننا نسير على «شريط موبيوس»، مجازًا للتعبير عن التكرار، في عودتنا لبداية كل وحشية أمريكية. 

تتمحور القصة حول عميل القوات الخاصة الأمريكية «جوشوا» -يؤدي دوره الممثل جون ديفيد واشنطن- المندس في آسيا الجديدة، معقل الذكاء الاصطناعي، منغمسًا في دوره كرجل محب لامرأة متمردة تسمى «مايا» مستخدمًا إياها كوسيلة تقربه من «نيرماتا» المطلوب الأول على قائمة الإجرام والمبتكر لهذا الذكاء.

في محاولة للقبض على «نيرماتا» أو القضاء عليه تبوء العملية بالفشل وتصاب زوجته «مايا» التي كانت تحمل في بطنها طفله بالنيران الصديقة الخارجة من السلاح المضاد للذكاء الاصطناعي «نوماد». و«نوماد» سلاح ابتدعته الولايات المتحدة بغرض إبادة الآلات والمحاكين، أشبه بسفينة فضائية ضخمة تجوب السماء بغرض طمس كل مهدد غير بشري. 

يغيب «جوشوا» عن الساحة بعد خسارته حبيبته وطفلهما في هذا الحادث العرضي، ليعود بعد عدة سنوات ليستكمل مسعاه في خدمة وطنه بعدما أقنعوه بنجاة زوجته، وبأن هناك سلاحًا يهدد البشرية يسمى «ألفا أو» وهو العنصر الأكثر تطورًا، حيث سيتحكم بكل التقنيات التي يمتلكونها، ومنها تقنية «نوماد».

يكتشف «جوشوا» لاحقًا أنَّ السلاح المراد تدميره عبارة عن طفلة صغيرة بقدرات فائقة، أقرب محاكاة بشرية للذكاء الاصطناعي، وقابلة للتطوُّر والنضج. هنا يبدأ البطل في مواجهة وهمه «الدونكيشوتي» بعدما انشق عن حكومته مختارًا الحب وحماية الطفلة -التي أسماها «ألفي»- ومنع تدميرها على الولاء لبلده، في عملية معكوسة يصبح فيها هو الإنسان الذي يعيد اكتشاف إنسانيته التي كان يظن أن الذكاء الاصطناعي سلبها منه. 

وفي إحدى نواحي آسيا، يخوض «جوشوا» في تأملات الآلات الوجودية وسط عالمها «الديستوبي»، ساعيًا باستماتة لتصحيح هذا الفائض من المظلوميات الناتجة عن المنظومة البشريَّة التي ينتمي إليها.

ولعلَّ الفلم في هذه التأملات يستند إلى تساؤلاتنا المتراكمة مثل: ماذا لو؟ أو كيف لنا أن نتبين؟!

فالآلات «تظهر» وهي تصارع دواخلها ومخاوفها خائضة تأملاتها الأنطولوجية لِتُفنّد أو تُثبّت وجودها وسط هذا العالم الذي يضج بالمشاعر والعاطفة والألم، بينما يتوجس البشر حيال ردات فعل هذا الذكاء الاصطناعي. 

ففي البداية، وبعد كل تعاطف يسبق القضاء على آلة، يردد «جوشوا» جملة «هذه مجرد برمجة» محذرًا نفسه والآخرين في كل وقت من الانزلاق خلف العواطف التي تحضر مع كل عملية «انطفاء قسرية» مسبوقة باستجداء آلي يشبه استجداء من يمتلك وعي المجهول لما بعد الممات ومن يخشى على روحه من الفناء والعدم. وكأن هناك غرائز بشرية ونزعات سلوكية استُنسخت، كالرغبة في النجاة والخوف الفطري الخاضع للمؤثرات الترهيبية المهددة للحياة. 

وقد:

نجح مخرج فلم «The Creator» قاريث إدواردز في زرع الرسائل الملغزة والمسائل المرهقة للأنفس وسط الحماسة الحركية، بصريًا وسمعيًا وفكريًا. ما عدا أنَّ مدماك التوافق بين بطله وبين فكرته الملحمية «الأدرينالية» كان مائلًا. Click To Tweet

إذ لمسنا شيئًا من التنافر المدرك.

فالحوارات برأيي لم تجد نسقها العميق، وكأنَّ الممثل جون ديفيد واشنطن -لا سيما في الشق الأول من الفلم- كان يتعمَّد إفساد كل مشهد من شأنه أن يحلق بنا نحو بعد عاطفي. فقد تلمستُ عملية التلقين في كثير من المشاهد، وكأن بعض الحوارات كانت حملًا ثقيلًا من الأجدر التخلص منه، فلَم يكن الأداء تقمُّصًا بقدر ما كان تمثيلًا باردًا لا يتناسب مع الشاعرية. وقد أتفهم هذا الجمود «الروبوتي» في البشري كعملية تبادلية تتلخص بها فكرة ترقيق القلب من بعد قسوة، كمشاعر غسقية تدرك بشكل متدرج. 

الحالة ذاتها عشتها مع الموسيقي هانز زيمر الذي كانت معزوفته «لا وقت للحذر» (No Time for Caution) في فلم «Interstellar» تشعرك بأدرينالية ارتجال «كوبر» وهو يحوِّل المستحيل إلى ضرورة. أما في هذا الفلم لم يكن وجوده الموسيقيّ بكماله الملحمي المعهود نفسه. 

ولعلَّ اعتراضي حيال الممثل جون ديفيد واشنطن سببه استحضاري لفلم شبيه ناقش فكرة ابتداع طفل آلي كاستثناء وكفعل غير مسبوق، ليتفاجأ الناس من جرأة العبث بالبراءة البشرية من خلال «الطفل».

فلم «A.I Artificial Intelligence» الصادر عام 2001 للمخرج ستيفن سبيلبيرق ناقش عاطفة طفل آلي يدعى «ديفيد» استقدموه ليحل بديلًا عن ابن العائلة المصاب بالغيبوبة. ليكتسب لاحقًا، بعد استبعاده بسبب مكائد تزامنت مع عودة الابن من الغيبوبة، أمنية «بينوكيو» في التحوّل إلى كائن بشري، في محاولة منه للإبقاء عليه، لكي يتسنى للبشريين تصديق الكم الهائل من العاطفة المختزنة بداخله تجاه أمه البشرية، لتُعلَّق أمنيته هذه لألف عام!

فالعلاقة تنشأ بين «ديفيد» و«جو» الذي أدى دوره «جود لو» في رحلة البحث عن الساحرة التي ستحقق أمنيته ليتحول إلى كائن بشري كالرحلات التي تحدث غالبًا بين الكبير بنزعته الأبوية والصغير البريء من وحشية العالم. وكانت رحلة «جو» و«ديفيد» أكثر عاطفية لي من رحلة «جوشوا» و«ألفي». وعلى رغم أن «جو» كان رجلًا آليًا صرفًا فإنه أوصل الرسالة المؤثرة دون تكلّف.

لكن يبقى فلم «The Creator» من ضمن أجمل أفلام هذا العام، وتجربته في السينما تعرِّض الحواس لعدة مناشط ممتعة، أحدها اتساع حدقة العين بسبب الإبداع الذي سنتلمس منه سلسلة أفلام «حرب النجوم» التي أحب. وأنه من الأعمال القلائل التي لا تترك لك مساحة للهو بالهاتف أو السرحان!

لذلك أعطيه 7.5 / 10 🍿😳

استدراك أخير: على ذكر الذكاء الاصطناعي الذي يؤرقنا جميعنا، أرى أن الخشية الحالية ليست من الإبادة المستبعدة، ولكن الخشية من الإحلال المعتمد على القدرات الذاتية والمهارة الفردية.

لهذا أضع هذا الاقتباس الساخر من فلم «I Robot» من بطولة ويل سميث حين سأل المحقق «ديل» الرجل الآلي «سوني»: 

البشر لديهم أحلام، حتى الكلاب لديها أحلام، لكن ليس أنت، أنت مجرد آلة، تقليد للحياة. هل يستطيع الروبوت كتابة سيمفونية؟ هل يستطيع تحويل لوحة قماشية إلى تحفة فنية جميلة؟

ليرد الروبوت سوني:

هل تستطيع أنت؟

وهذه الاجابة برأيي كفيلة بأن نرى القادم المرهِق، حين لا يبدو الذكاء الاصطناعي أقلية متفوقة.. بل يشبه الأكثرية من البشر.

الذكاء الاصطناعيالمستقبلمراجعات الأفلامالسينما
النشرة السينمائية
النشرة السينمائية
منثمانيةثمانية

نحن ممتنون لزيارتك لمدونتنا، حيث ستجد أحدث المستجدات في عالم التكنولوجيا والابتكار. نهدف في هذه المدونة إلى تقديم لك محتوى ذو جودة عالية يغطي مجموعة واسعة من المواضيع التقنية المثيرة.jjcinema