الشاعر الذي أثر فيَّ كالمتنبي
كانت عبقرية المتنبي عندي في الصور والمشاعر والعلاقات بينهما، وفي القدرة على جعل اللغة إبرة تشكُّ القلب.
في فترة معينة استحوذ ديوان المتنبي على تفكيري. طوال حياتي أقرأ المتنبي لكني الآن مهووس به، أطالعه صباح مساء، أنفق ساعات على شروح الأبيات. كنت أشعر أني تلميذ يتعلم أسرار الكون، صوتٌ عمره أكثر من ألف عام يكشفها لي بطريقة ليست سهلة ولكنها ساحرة، ومع أنه يتحدث عن الخيل والصحراء والفروسية أحسه أقرب إليّ من أي شخص.
هذا الديوان في رأي كثيرين من أعظم وربما أعظم ما جادت به اللغة العربية على مر العصور. كان أبو العلاء المعري يسميه «مُعجِز أحمد»، ويسمي كاتبه «الشاعر» وكأن أحدًا لم يكتب الشعر إلا هو. لكن المهم في المسألة أن فيه عباراتٍ وصورًا تهزني من أعماقي وتُطربني، ولا أستطيع أن أمنع نفسي من قراءتها على زملائي وأهل بيتي لأشاركهم النشوة.
ومع ذلك – هنا الحكاية – كانوا ينظرون إليّ بوجوه باردة أو متهكمة. ما إن يسمعوا بيتًا حتى يقولوا «شعر؟» بنبرة متحسرة مستنكرة، يستغربون هيامي ولا يكاد يصلهم مما أردِّده سوى الثقل والتعقيد. لعل في صعوبة اللغة وطول المسافة الزمنية بيننا وبين المتنبي وبعدهم عن الأدب ما يفسر ذلك، لكني لم أسترح لرد فعلهم. صدمني كيف لا تؤثّر فيهم الكتابة؛ فعبقرية المتنبي عندي لا تكمن في البلاغة الأقرب فعلًا إلى الإعجاز، ولم تكن في القدرة الخارقة على تطويع اللغة ونغمها، ولا في روعة المعاني التي يولدها اللعب بالكلمات:
أغالب فيك الشوق والشوق أغلبٌ
وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجبُ
كانت عبقرية المتنبي عندي في الصور والمشاعر والعلاقات بينهما، وفي القدرة على جعل اللغة إبرة تشكُّ القلب:
وما استغربت عيني فِراقًا رأيته
ولا علَّمتني غير ما القلب عالمُه
سألتُ صديقًا: هل فعلًا لا ترى في هذا الكلام شيئًا؟ قال لي إنه يعي عبقريته لكنه لا يحسها. وأضاف: إن الأساليب والمعاني كليهما بعيد عن حياته، وتفكيره أبعد من أن يتعرف في القصائد إلى نفسه أو إحساسه بالجمال. قد يكون هذا أعظم شعر في الدنيا كما تدَّعي –قال– ولكن ما الفائدة؟
الشعر ديوان العرب كما يقال، وهو أحد الإجابات التاريخية عن سؤال مَن نحن، لكني أدركتُ وقتها أن حب «القارئ العادي» للشعر القديم مجرد كذبة، لقد فقدَ أكثرُنا الصلة بهذا الفن لدرجة أنه حين يسمع أعذب أبياته لا يشعر بشيء. Click To Tweet
صديقة أخرى سألتني وفي صوتها تحدٍ: تقول إن هذا الكلام عظيم لأنه شِعر، فهل تقدر أن تقول لي ما الشعر؟ أحرجتني. من المفروغ منه أن الشعر ليس في الوزن والقافية أبدًا، ولكن… ثم تذكَّرت الشِعر الحر: قصيدة النثر كما تسمّى التي أكتبها شخصيًا والتي تشبَّعتُ بها قبل أن أكتشف التراث.
وبينما أحاول الإجابة على سؤال صديقتي تذكَّرت أعمال وديع سعادة على وجه الخصوص. ليس لأنها تشبه أعمال المتنبي بأي شكل، ولكن لأنهم كانوا يتأثرون فقط في المرات التي قرأت فيها قصائد ذلك الشاعر اللبناني المعاصر. كانوا يتأثرّون جدًا مع أنهم ربما لا يتعرفون فيه على أي «شعر» –ما هذا الكلام، يسألون، ومن قائله؟– كانت وجوههم تَرِقُّ وتبتل عيونهم، وكانوا يبتسمون استحسانًا، كما فعلوا على سبيل المثال مع «زيارة ليلية»:
كانوا يُخْبرونَ أطفالَهم حكاياتٍ
عن الملاكِ الحارسِ والزرْع
والبلبلِ الذي جاءَ هذا الصباح
وغنَّى في شجرةِ التوت، على شبَّاكهم
يُخبرونهم عن عِنَبٍ
سيبيعونه و يشترونَ
لهم ثيابًا جديدة
عن كنزٍ
يكون غدًا تحتَ وسادتهم إذا ناموا،
لكنَّهُم وَصَلُوا
قطعوا الحكاياتِ
تركوا بقعًا حمراءَ على الجدار
وخَرَجوا.
هذه اللغة السهلة كالماء، والنغم المُرسَل على سجيَّته لا يتبع وزنًا أو قافية، وقبل هذا وذاك شفافية وعمق الإحساس الذي يشك القلب مباشرة، بلا حاجة إلى السفر في الزمن أو فهم أسس لغة معقَّدة. كانت هذه الأشياء هي ما يتيح عبقرية الصور والمشاعر والعلاقات بينهما. عدت إلى دواوين وديع، وقرأت:
ملحٌ قليل ينام
في يدي التي أستمتع بصمتها الدائم
ملح
كأنَّ يدي كانت في الماضي بحرًا
ورأسي
الموجود معي الآن
يمشّط شعره في قارَّة بعيدة
لقد أكدت ولعي بشعره بصرف النظر عن شكله؛ كانت قصائده على رغم اختلافها التام عن المتنبي تترك قلبي يخفق في صدري مثل طائر ذُبح لتوّه.