كيف تكون سرديَّة السينما الفلسطينية تحت الحصار
الأفلام تبني السرديَّات التاريخية في الأذهان، ولن يكون هذا إلا باعتناق سرديَّة المأساة الفلسطينية كاملةً بكل تفاصيلها في الأفلام.
يقول الشاعر الفلسطيني توفيق أمين زيّاد:
سأحفر رقم كل قسيمة من أرضنا سُلبت
وموقع قريتي وحدودها وبيوت أهليها التي نُسفت
وأشجاري التي اقتُلعت
وكل زُهيرة برية سحقت
لكي أذكر
سأبقى دائمًا أحفر
جميع فصول مأساتي
وكل مراحل النكبة
من الحبة
إلى القبة.
يحفر الشاعر بشعره علامة توثيق اعتراضية في عملية تأريخ المعاناة على خريطة الأرض المقدسة التي تذوقت الويلات المتعاقبة. بدءًا من الحكاية التي تداولها بعض المسيحيين والتي تقول إن زيتون القدس كان حلوًا لكنَّ طعمَه صار مُرًّا بعد الليلة التي بكى فيها المسيح وحيدًا، حيث سقى أشجار الزيتون أوجاعه فسكنَتْها المرارة. حتى آخر مرثية قيلت في ضحية كانت تهم بصلاة الفجر فتعرضت لقصف غادر نفذه الكيان الصهيوني المحتل.
وهذه الحكايات سواء كانت ابتداعات سينمائية أو روائية أو شعرية أو حتى موروث فلكلوري تشبه ما قاله ويليم هازلت: «أدب كل أمة هو الصورة المنعكسة عليها». وهذه القصص المطعَّمة بالأوجاع والآهات التي لا تنتهي ليست سوى انعكاسات لأمم توارثت الألم والحزن والشقاء والتهجير بسبب معاداة أمم أخرى متجبرة.
الحكاية هنا هي مروية الإنسان الفلسطيني المعاصر، أقصد المحاصَر بكافة معضلاته الوجودية، حكاية تسمِّي من سقطوا بسبب غارة جوية شوَّهتْ ملامحهم عوضًا من أن يُكتب على جثمان كل واحد منهم «مجهول». وهذه الهوية المعطاة ليست حيلة عاطفية نجابه بها التحزُّب الغربي الذي يتعمد أن تكون ذاكرته مثقوبة لتتسرب منها مواجع الفلسطينيين كانسكاب يفضي نحو مصب النسيان، مرسِّخًا قيمة الضحايا بدونيَّة ليتم ذكرهم في الحاشية والهوامش وليس في المتن. بل هو فعلٌ مدوٍ يهزُّ الضمائر الخاملة ويجبرها على الامتثال. كل ما يتطلبه الأمر، التقاطة بانورامية واسعة توضح بأنَّ الميت كان حيًا مثلنا، يبتسم ويضحك ويمتلك واجبات مؤجلة وهمومًا وأفواه يطعمها.
فحين نعطي الضحية المجهولة اسمها المطابق لاسمنا في الفلم ندرك أن ما يربطنا بها أكثر بكثير مما يربطنا بآبائنا عرقيًا وجغرافيًا. كأن نشترك في حلم الزواج من فتاة أحلامنا، ما عدا أن حلم الفلسطيني لا يتخطى الوسادة التي مات وهو حاضنها، كون تطلعات الشاب الفلسطيني حيال مستقبله تتزايد نسبة سلبه طرديًّا؛ كلما ارتفع سقف الآمال ازدادت احتمالية هدمه!
وهذه القضايا المحيطة بهم من جميع الضفاف والمتغافَل عنها إعلاميًا تذكرني بالمخرج الإيراني «أصغر فرهادي» حين سُئل عن رأيه في السينما العربية في كتاب «السينما الإيرانية الراهنة» فردَّ قائلًا (بتصرف): شاهدت أعمال المخرج المصري يوسف شاهين، وأعمال المخرج الفلسطيني إيليا سليمان، وهي محاولات تبين أنهما أدركا مدى أهمية الدور الذي تؤديه السينما في خدمة قضيتهم على المسرح العالمي.
ولعل المخرج الإيراني كان يقصد الفلم الساخر «يد إلهية» أحد أبرز أعمال إيليا سليمان، الصادر عام 2001، الذي مُلئ بالرمزيات والدلالات والمشاهد الروتينية. أظرفها كان لسائحة أجنبية تائهة على رغم امتلاكها خريطة إرشادية، استفسرت من شرطي صهيوني عن طريقة للوصول لموقع كنيسة «القبر المقدس» داخل أسوار البلدة القديمة في القدس، ليحتار هو أيضًا معها، ويتوجه بعدها إلى المعتقل الفلسطيني المعصوب العينين بالمقعد الخلفي محيلًا السؤال عليه بعدما أخرجه من السيارة، ليقترح عليها الفلسطيني المكبل عوضًا من الطريق الواحد ثلاثة طرق تقود إلى الوجهة نفسها، دون أن يُبصر!
وعلى رغم أنَّ هذا المشهد كان رسالة واضحة ندرك من خلالها أن الفلسطيني هو الأحق بالوجود لكونه الأدرى بِقُدسه، يبقى الفلم مسطِّحًا للمشاعر الفلسطينية، ساخرًا بأنفة وبتفرد، وموجَّهًا للنخب وللجمهور الغربي المتسائل حيال الضبابية التي فرضها المخرج بذكاء، ليجيب عنها بصورة التجربة الجمالية المستكملة للفلم.
ولكن هناك أفلام رسائلها واضحة تعتمد على إعادة تجسيد الجراح بصورة تتكشف بها اللحظة بلا مشتتات تختبر قدرة المشاهد (الغربي بالذات) على استنتاج الحقيقة من الرمزيَّات، وهي متاحة للمشاهدة بصورة أسهل على منصات مثل «نتفلكس»… (على الأقل حتى الآن!).
ولعلي ألزمت نفسي ثلاثة أفلام ثم احترت بين فلمي «الجنة الآن» و«عمر» اللذين أخرجهما هاني أبو سعد، وعلى رغم أن الأول ترشح لجائزة «أوسكار» وحاز جائزة «قولدن قلوب»، إلا أنك كمشاهد ستتلمس شيئًا من الغرابة، كمحاباة الفكر الغربي، حيث تظهر الإيمانيات بشكلٍ هامشي ومخجل على الشابين المقبلين على فعل انتحاري وهما يتلمسان ضبابية المآلات الأخروية.
بل إن سبب هذه العملية لا يتناسب مع الأيدولوجية الجهادية، كأن ينتقما من أجل شخصية سياسية، وكأنه سبب وحيد من بين آلاف الأسباب التي تستدعي هذه المهمة. كأن المخرج هنا يختلق سببًا مقنعًا ليتفادى اللبس الذي قد يحصل لدى المتابع الغربي، وكأن بقية الأسباب ليست سوى دوافع لا مسوغ لها. وأفضل مشهد واقعي حصل في الفلم تعاطف الجهادي مع الطفلة في الباص الذي كان يود أن يفجره؛ لتجلّي واقعية هذا الفعل الإنساني في الأحداث الراهنة.
هنا تتبيَّن لنا حقيقة العائق الذي يواجه السينما الفلسطينية؛ على رغم قدرة صانع الأفلام الفلسطيني على مجاراة السينما الإيرانية بل التفوُّق عليها، فإنَّ العائق الأكبر يتمثَّل في الدعم المشروط الذي يحصل عليه.
في أكثر من مناسبة لصناع أفلام فلسطينيين ذكروا أن هناك إملاءات كثيرة مع كل دعم يقدم لهم، كالتدخل في القصة والسيناريو واحتساب الأحداث التي كُتبت إما مبالغةً أو «معادية للساميَّة» Click To Tweet
ولا أستطيع الجزم بأن هذا ما حصل فعلًا مع فلم «الجنة الآن».
لذلك وقع اختياري على فلم «عمر» 2013 الذي يتحدث عن قصة حب بين طرفين يفصل بينهما الجدار العنصري في الضفة الغربية. نتلمس في الفلم الأحلام المتناقضة التي تعشش في الشباب الفلسطيني، كأن يحلم الواحد منهم بمستقبل مشرق وفي الوقت نفسه يطمح إلى أن يكون رجلًا مقاومًا للاحتلال السافر المحطم للآمال، والهمة المتذبذبة التي سنتلمسها من تسلق عمر للسور، حيث يبدأ في بداية الفلم بنشاط «طرازان» وفي النهاية نجده لا يقوى على حمل نفسه. وعلى رغم أن تجربة الممثلين كانت غير ناضجة إلا أنهم أدوا أدوارهم على أكمل وجه.
وهناك فلم «3000 ليلة» للمخرجة مي المصري المقتبس من قصة حقيقية لامرأة تدعى «ليال»، حُكِم عليها بالسجن وهي حامل بلا تهمة واضحة في منتصف السبعينيات، لتلد طفلها في أثناء اعتقالها المتعسف. ونشهد في الفلم على معاناة الأسيرات لدى الكيان الصهيوني، كما نستشعر التحزبات العرقية والنظرة التخوينية من السجينات الإسرائيليات، حيث ينتقل الصراع الخارجي إلى الداخل، كانعكاس واضح للمنازعات التي حصلت وقتها بين الكيان الصهيوني ومنظمة التحرير الفلسطينية في أثناء وجودها في لبنان.
أرى أن الفلم الأهم في مرويَّة الإنسان الفلسطيني المعاصر هو «فرحة» للمخرجة الموهوبة دارين سلام الصادر عام 2021. وهو الفلم الذي هاجمت بسببه إسرائيل منصة نتفلكس، فهو كما يقول وزير مالية قوات الاحتلال «يحرض على كراهية جنودنا». ومن اسم البطلة الصغيرة القروية (فرحة) التي كانت تحلم أن تستكمل تعليمها ندرك أنها فرحة مسلوبة.
القصة مستوحاة من أحداث حقيقية لفتاة تشهد على الإبادات من ثقب الباب بعد أن خبأها والدها، وسط ترقب يجعلك تحبس أنفاسك معها. وهنا تكمن «شطارة» المخرجة التي أجادت في تجربتها الطويلة الأولى في توظيف العنصر المكاني حتى تماهى مع القصة، لكون الفلم يتناول نكبة 1948، وهذا مبرر كافٍ نستشف منه سبب الاعتراض على الرواية الأقرب إلى تلك الوقائع. ففكرة تبدل الأحوال والتهجير القسري والتطهير العرقي تناولها غسان كنفاني -الذي تمت تصفيته- في مسرحياته وأدبياته التي تحولت إلى أفلام لاحقًا.
وهذا ليس تسابقًا صوب المظلومية التي يعدّها الصهاينة إرثًا لهم وكأن وجودها في السينما أشبه بالملكية الفكرية لهم، بل لإدراكهم الأثر الذي قد يتركه العمل في نفس المُشاهد. فأكثر الشخصيات نيلًا للتعاطف هي مَن تُصيبها الانتكاسة بعد عزّة، وتمضي بها الحياة كما لو أن مستقبلها أضحى من الماضي. وهذا ما حصل للطفلة «فرحة»، النسخة العربية للطفلة اليهودية «آن فرانك» التي كانت تدوِّن مذكراتها في المخبأ السري: كلتاهما عاشتا قبل الحادثة في رخاء وهناء.
ولو كان في أيدي الاحتلال انتزاع هذه الأفلام بالقوة الجبرية كما أرادوا لفلم «فرحة» لفعلوا، فقد فعلوها من قبل حين استولوا على قسم أرشيف الأفلام الفلسطينية التي توثق للنضال الذي ابتدأه المخرج مصطفى أبو علي والمخرج الشهيد هاني جوهرية والمصورة سلافة جاد الله، بعد خروج منظمات التحرير من لبنان.
وقد كان من حسن الحظ أن وثَّقت زوجة المخرج مصطفى أبو علي، الكاتبة خديجة حباشنة، الأفلام المنهوبة في كتابها «سيرة وحدة أفلام فلسطين» الذي استغرق البحث منها فيه عشر سنوات. وقد شبهتها الناقدة السينمائية رانيا حداد بهذه الفعلة ببطل رواية «مئة عام من العزلة»، الذي أخذ يدوِّن بقلمه أسماء الأشياء على الأشياء، فكتب على الكرسي «كرسي» وعلى الطاولة «طاولة»، قبل أن تُمحى التسميات من الذاكرة بسبب إصابة قريته «ماكوندو» بطاعون النسيان، ولذلك أخذت الباحثة خديجة تكتب عن فرسان السينما الفلسطينية لتحفظ تجربتهم التوثيقية للأبد؛ لكيلا تسقط من الذاكرة العربية.
ندرك وجود صورتين راسختين كما الوشم في أذهان العالم: العربي الإرهابي واليهودي الناجي من الهولوكست. ولذلك يستبعد الجاهل بالقضية الفلسطينية أنَّ الجدار العنصري الفاصل بين غزة والكيان الصهيوني نسخة طبق الأصل من «القيتو» الذي كان يحشر به اليهود كأسماك سردينية، مجرَّدين من جميع حقوقهم.
وأنا متيقن من أن عدم إلمام عوام الغرب ومشاهيره بالقضية مرتبط بفقر الاطلاع؛ فالأفلام التي تداولت الغزو النازي وثائقيًا وسينمائيًا كانت بمثابة ذاكرة تلقينية باعثة لتعاطفهم المقترن ببكاء «عازف البيانو» فلاديسلاف شبيلمان بعدما فقد عائلته، و«قائمة شندلر» ومشاهد الرجال بأعينهم الذابلة والنحالة الصادمة في معسكر الاعتقال، وإنسانية روبيرتو بينيني الذي جسد نفسه كإحدى الفئات المستضعفة في فلم «الحياة جميلة».
ولعلي أتراجع عمّا كتبته على منصة «إكس» قبل أيام متهكمًا ممن يستقي اصطفافه العاطفي من الأفلام مدونًا: أعرف من يتباكى على قضية إنسانية في فلم سينمائي ويتجاهلها على الواقع. وأعرف من ينبهر من واقعية ممثل خسر عائلته ويشكك في حقيقة مأساوية مشبهًا إياها بالمسرحية!
فالأفلام تبني السرديَّات التاريخية في الأذهان، ولن يكون هذا إلا باعتناق سرديَّة المأساة الفلسطينية كاملةً بكل تفاصيلها في الأفلام، من الحبَّة إلى القبَّة، دون لجوءٍ إلى الرمزيَّات أو خوف من فزَّاعة تهمة «معاداة السامية» التي سقطت يومَ النكبة.
نحن ممتنون لزيارتك لمدونتنا، حيث ستجد أحدث المستجدات في عالم التكنولوجيا والابتكار. نهدف في هذه المدونة إلى تقديم لك محتوى ذو جودة عالية يغطي مجموعة واسعة من المواضيع التقنية المثيرة.jjcinema