غزة ستحتاج دعم الساعات الذهبيَّة
فترة «الساعات الذهبية»، الفترة الحرجة التي لا تتعدى الأيام الثلاثة حيث يمكن للدعم النفسي أن يحد من الأضرار طويلة المدى.
من بين مقاطع الفيديو التي تنقل لنا يوميًا بشاعة القصف الغاشم الذي تعانيه غزة، لا يفارق ذهني أبدًا مشهد الطفل الذي ظهر وهو يرتجف بشدة بعد أن استيقظ من نومٍ عميق على قصف الطائرات الإسرائيلية لمنزله.
دفعتني ملامح الطفل البريئة لمشاهدة الفيديو أكثر من مرة. وهنا أدركت ببساطة أنه حتى إذا توقف القصف الآن فإن هذا لا يعني نهاية معاناة هذا الصغير؛ فالضرر النفسي الناتج عن فظائع كتلك لا يقل عن الضرر المادي أبدًا.
يعاني أهلنا في فلسطين من إيذاء نفسي مقصود على مدار أعوام الإحتلال، بل إنه من الأدوات الخفية المُستخدمة في التهجير القسري للفلسطينيين كما يوضِّح تقرير«منظمة أطباء العالم» الذي يشير أيضًا لانتشار واسع لأمراض الصحة العقلية مثل الصدمة والاكتئاب والقلق الناجم عن انتهاكات الحقوق بين أبناء الشعب الفلسطيني.
هذا الإيذاء النفسي بلغ ذروته خلال الأيام الماضية. فتزامُن القصف اليومي مع الحصار غير الإنساني يُفقِد الفلسطينيين القدرة على تلقي الدعم النفسي في الفترة الأهم على الإطلاق، فترة «الساعات الذهبية». وهي تلك الفترة الحرجة التي لا تتعدى الأيام الثلاثة حيث يمكن للدعم النفسي أن يحد من الأضرار طويلة المدى، مثل اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) والقلق والاكتئاب.
يحتاج المتضرر من صدمة عنيفة إلى التحدث إلى شخص ما بشكل عاجل فقط ليهدأ ويحاول أن يعي حقيقة الحدث. الأمر مشابه لأي حالة طبية عضوية، فكلما عالجت الحالة مبكرًا قلَّ احتمال أن تصبح معقّدة في المستقبل؛ لذا يحتاج المرء إلى تلقي ما يشبه الإسعافات النفسية الأولية وإلا تفاقم الوضع كثيرًا بعد ذاك.
أنا لا أتحدث هنا عن الدعم النفسي من أطباء متخصصين ولو أنه ضرورة. لكن حتى الدعم النفسي الذي يقدمه الفلسطينيون إلى بعضهم البعض غير مضمون حاليًا؛ لأنه إذا كان الجميع مصابًا وقلقًا ومروعًا فمن سيهدِّئ من!
ربما هذا ما يفسر لنا تلك الإحصائيات الكارثية التي تتناول الصحة النفسية في غزة خلال أوقات القصف. فقد كشفت دراسة أجراها برنامج «الصحة النفسية المجتمعية» في غزة عقب أحداث الانتفاضة الثانية (2000: 2005) أن 97.5% من الأطفال عانوا من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة بمختلف مستوياتها، وأبلغ 27% من الآباء عن تبول أطفالهم في الفراش، في حين ذُكِر أن 39% من الأطفال عانوا من الكوابيس.
يمتد هذا الأثر لوقت طويل مثلما تؤكد الطبيبة النفسية الفلسطينية الأصل إيمان فرج الله التي تذكر أنها لا تزال للآن غير قادرة على مشاهدة الألعاب النارية؛ لأنها تعيد إلى ذهنها مشاهد القصف الإسرائيلي، على رغم أنها غادرت غزة منذ عشرين عامًا.
على رغم كارثية تلك الإحصائيات فهي تتناول فترات تعرضت فيها غزة لظروف قصف وحصار أقل كثيرًا مما تتعرض له الآن، وهو ما يعني أننا نشهد حاليًا وضعًا هو الأصعب على الإطلاق، وأن فكرة تأمين الدعم النفسي للضحايا ضرورة لا غنى عنها.
لحسن الحظ، يعي هذا الأمر جيدًا القائمون على محاولة تقديم الدعم الطبي لغزة، فأحد التخصصات الطبية المنتظر دخولها لدعم الضحايا هو «الطب النفسي والعصبي».
في اليوم التالي لمشاهدتي المقطع، أدركت أنني لم أكن الوحيد الذي تعلق قلبه بالطفل المرتجف، فمقطع الفيديو الأكثر انتشارًا كان مقطع عودة الطفل ذاته لأهله وعودة البسمة إلى وجهه، وعرفت يومئذ أن اسمه محمد أبو لولي.
وبينا أتصفح مقاطع الفيديو يوميًا آمل ألّا أجد ما يفجعني في محمد، ويزداد أملي كلما سمعت أخبارًا عن محاولات دخول مساعدات طبية بأن يحصل محمد على دعم نفسي متخصص يحتاجه كثيرًا. وأدعو الله كل يوم أن يتوقف هذا القصف الوحشي الذي يخلِّف آلاف القتلى وآلاف المرتجفين دون أن يهدِّئ من روعهم أحد.
نحن ممتنون لزيارتك لمدونتنا، حيث ستجد أحدث المستجدات في عالم التكنولوجيا والابتكار. نهدف في هذه المدونة إلى تقديم لك محتوى ذو جودة عالية يغطي مجموعة واسعة من المواضيع التقنية المثيرة.jj