عشرة دروس تعلمتها من جري موراكامي

كان أول درس علمني إياه موراكامي أن أنفض عن ذهني كل الأفكار المتداولة حول الروتين، بل أتبنَّاه وكلي ثقة في نجاحه.

يقولون: يفترض لبلوغ الفلسفة أن نرتقي من أجلها الأبراج العاجية، وأن نبحث ونشيخ ونحن نراجع أمهات كتبها، لكنها في الحقيقة قد توجد في أماكن أبسط من ذلك، مثل الممارسات الإنسانية العادية. قد يجدها المرء وهو يطبخ أكلاته المفضلة أو يشذِّب زرع حديقته، أو تجدها المرأة وهي تضع زينتها أو تكتب يومياتها، أو الرجل وهو يحلق ذقنه أمام المرآة، أو كما حدث مع هاروكي موراكامي وهو يركض.

في كتابه المعنون «ما أتحدث عنه حين أتحدث عن الجري» يكتب موراكامي سيرة ذاتية مختلفة عن السير الذاتية المعتادة للكُتَّاب، يسرد تفاصيل مسيرته الخاصة فقط من خلال ممارسته رياضة الجري. وهي الهواية التي نجح من خلالها موراكامي في أن يجمع بين الإنسان والكاتب والعدَّاء، وقدَّم لنا بأسلوب بسيط وهادئ عصارة فلسفته المستخلصة من روتين يومي أثَّر إيجابًا في صحته وبقية نواحي حياته.

الروتين والمعاناة

كان أول درس علمني إياه موراكامي أن أنفض عن ذهني كل الأفكار المتداولة حول الروتين، بل أتبنَّاه وكلي ثقة في نجاحه. أن أحترف روتينًا يوميًا لا أخلف له موعدًا، أواظب على بعض الأفعال التي قد أراها مكررة أو مملة لكنها مع الممارسة المستمرة تتحول إلى حافز كافٍ يدعو إلى التأمل، بل يغدو في ذاته فعلًا تأمليًا. لا أستعجل الوصول بل أمضي بهدوء وببطء، وأنطلق من الفعل نحو أفكار أعمق. 

أؤمن بأن بعض الكتب تجد طريقها إلينا في اللحظة المناسبة تمامًا لترميم ثغرات تجاربنا، وقد جاء هذا الكتاب في لحظة شك راودتني لكي تعيد بوصلتي الشخصية مجددًا نحو روتيني الذي تبنيته منذ سنة وخذلته تحت وطء التعب والغواية، مدركةً تمامًا درس موراكامي الثاني: أنَّ المعاناة في النهاية اختيارٌ مكلل بالنجاح ولو بعد حين.

الإيقاع والمعايير الذاتية

بعد نجاحي في اعتماد هذا الروتين الذي يشمل النوم المعتدل وممارسة الرياضة وتناول الأكل الصحي والقراءة وغيرها من التفاصيل الحيوية، أدركت أهمية البحث عن الإيقاع المناسب الذي يساعدني على الاستمرار على المدى البعيد، بخاصة مع وجود مشاريع طويلة تتطلب مني التفاني والجلَد. 

هكذا استوعبت درسًا قيّمًا من تجربة موراكامي الذي كشف أن كيفية الحفاظ على شغف الهواية على مر السنين لا ينحصر في كونه مهمة ميكانيكية وحسب، بل يذهب أبعد من ذلك ويؤسس فلسفة حياة ترمي إلى إيجاد التوازن دون الوقوع في فخي الملل والإرهاق. ويُظهر موراكامي أنَّ التجربة الشخصية لكل فرد كفيلة بالعثور على هذا التوازن متى أحسن الإصغاء إلى ذاته واحتياجاته.

بلوغ هذا الهدف، حسب موراكامي، يتطلب أن أركز في معاييري الذاتية وأعمل على تحسينها بصفة دورية بغض النظر عن الإنتاجية أو عما يعتقده الآخرون وكيف يقوِّمون تجربتي. مع ذلك يمكنني أن أستفيد من تجاربهم ونصائحهم كمصدر إلهام وتأمل.

حقِّي في الفراغ بعيدًا عن إرضاء الآخر

تكفل لي هذه الممارسة الروتينية أن أخصص وقتًا لنفسي، بعيدًا عن ضجيج محيطي وعبء المسؤوليات. أدرك أهمية أن أكون مخلوقًا اجتماعيًا ولا أجد ضررًا في ذلك، لكن الرغبة في البقاء وحيدة تزداد كلما نضجت – وهذه مفردة أستخدمها لأتجاوز ثقل كلمة «كبرت». فالوقت المخصص لهذا الروتين قد يأخذ ساعات معدودة لتصفية ذهني والمحافظة على سلامته. وكما ذكر موراكامي، لا أحتاج في هذا الوقت القصير أن أكلم أحدًا أو أصغي إلى أحد، بل أسقط في فراغ لذيذ تعبر من خلاله الأفكار كغيوم تروح وتغدو ثم تتلاشى.

يغمرني هذا الفراغ كلما صادفت نقدًا أو مشكلة تجنبت مواجهتها في حينها، أتشرب كل ما يحدث بصمت. ومن خلال المشي أو أي ممارسة روتينية أخرى أنتهي بلفظها مرتبة ومفهومة وأحيانًا كثيرة متجاوزة، بخاصة فيما يتعلق بالخصومات وسوء الفهم المرتبط بالعلاقات الإنسانية. بعبارة أخرى، كما يؤكد الدرس السادس لموراكامي: لن أستطيع إرضاء الجميع وإن اجتهدت، وعليه؛ إن نجحت في إرضاء نفسي كان ذلك كافيًا.

حقِّي في ارتكاب الخطأ، وحقِّي في التعايش معه

يستعجل الإنسان خطاه نحو النجاح، وتمدح الحياة الحديثة السرعة وتبجلها. لكن الحياة في الحقيقة تشبه السباقات الطويلة التي ركضها موراكامي، حيث يستغرق اكتساب مهارة التعامل معها وقتًا طويلًا وجهدًا أكبر في صقلها والمحافظة عليها، وهذا يتطلب التعثر في تجارب كثيرة قد يكون معظمها مليئًا بالأخطاء. 

بشريّتي تمنحني حقَّ الوقوع في الخطأ، فكل الأخطاء التي أمر بها دروس تطرح ثمارها شريطة أن تستفز متاريس الحياة مقاومتنا. وهذا ما قد يميزنا عن العنكبوت الذي يجيد بناء بيته أو العصفور الذي يتقن نسج عشه من المحاولة الأولى؛ فالإنسان قد يفشل مرات عدة لكنه متى تجاوز فشله ذهب أبعد من بيتٍ أو عشٍّ في مهب الريح.

تكفل التجربة بمعية الخطأ أن أصل إلى مبتغاي ورمي ما عليَّ التخلص منه.

يذكِّرني موراكامي أنَّ النضج يبدأ متى أدركت حقيقة مفادها أن بعض الأخطاء والعيوب قد تستمر معي لكنها على الأقل توجهني نحو بلوغ محاسني والتركيز فيها وتطويرها. Click To Tweet

لا عيب في التعايش مع أخطائي ما دمت أحصل على المعادلة الثمينة التي تحدد أولوياتي ومواطن قوتي، ومهما بلغت من العمر وراكمت من أخطاء فسيدهشني دومًا ما أكتشفه في نفسي.

سأواصل الجري مهما كانت حقيبتي ثقيلة

يحدث أن ألتزم بكل الدروس السابقة لبلوغ أهدافي، لكن موراكامي يقدم درسًا تاسعًا يربكني حين يؤكد أن الجري لمسافات طويلة قد يحمل منعطفات غير متوقعة، كما يعرف المسار ظروفًا قاهرة خارجة إرادتنا. 

سأقف أحيانًا في محطات عدة متسائلة عن الجدوى من كل هذا الجري المنهك. ربما أتساءل عما حدث وأصغي للانتقادات وألوم نفسي، قد أتيه في تخمينات يراها موراكامي تزحف في الصحراء كقنوات مائية صغيرة. قد ألتفت، كما يقول، باحثة عن الشرير لأشير إليه معاتبة وأرمي عليه أخطائي.

لكن ما يتوجب عليَّ فعله حقًا هو أن أعود إلى ذاتي وأنزل إلى أقصى نقطة في داخلي، وأنبش البئر وأعيد ترتيب حقائبي الممتلئة بالخسارات والانتصارات وما رافقها من مشاعر. أن أواصل الجري وأجر خلفي هذه الحقائب المثقلة وأنا موقنة بأن الأصل هو الرحلة وليس الهدف، وأن أؤمن باختياراتي مهما حاول الناس إقناعي بالتوقف. 

سأتعلم من أخطائي وأعود مجددًا إلى المسار، حينها سأدرك الدرس العاشر والأخير الذي يقول إن سباقات الجري استعارة أراد بها موراكامي هذه الحياة التي «جئنا نحاولها» كما وصفها يومًا سعدي يوسف.

الإنسانالروتينالقراءةالكتب
المقالات العامة
المقالات العامة
منثمانيةثمانية