حتى لا نخسر أمام «تهويد المعرفة»

المشكلة لم تبدأ من الاحتلال الصهيوني لفلسطين، بل بالاحتلال الصهيوني للعقل الغربي الذي سمح له -بل أكَّد حقَّه- في إقامة دولته في فلسطين.

«نحن لم نخسر الأرض والوطن والبيوت والمزارع فقط، بل خسرنا التاريخ ومنابع المعرفة أيضًا. وهذا يكشف لنا الاتساع الحقيقي لميدان الصراع». بهذه العبارة افتتح الكاتب والباحث السوري الراحل ممدوح عدوان كتابه المهم «تهويد المعرفة».

تبرز أهمية العودة إلى قراءته في هذه الأيام، حيث يبطش الكيان المحتل بغزّة ويمارس أبشع الجرائم الإنسانية، حتى نفهم التحيُّز الصارخ من الإعلام الغربي، وسكوته الذي يذكِّرنا بقول الشاعر اليمني عبدالله البردوني: «فظيعٌ جهلُ ما يجري… وأفظع منه أن تدري!».

منذ إعلان رئيس المنظمة الصهيونية العالمية ديفيد بن قوريون في مايو من عام 1948 قيام دولة إسرائيل جامعةً ما سماهم «يهود الشتات» من مختلف أنحاء العالم في دولة فلسطين، ابتدأ مشروع «تهويد المعرفة» الذي يهدف إلى تغيير تصورات العالم أجمع عن اليهود، ابتداءً من العالم الغربي، متّخذًا ثلاث طرائق رئيسة لذلك كما وضحها الكتاب.

الأولى هي «التبرئة». فقد سعى اليهود ببراعة إلى التغلب على الكراهية المترسبة عن دور أجدادهم في «قتل المسيح» وفق الرواية المسيحية. ونجحوا بعد جهود استمرت عقودًا في استصدار «فتوى» بتبرئتهم من دم المسيح من البابا نفسه. وصار من يذكر هذا الأمر يصنَّف فورًا معاديًا للساميّة. 

أما الثانية فقد تمثلوا فيها مقولة مايكل شرمر في كتابه «ناكرو الهولوكوست»، إذ قال: «التاريخ الزائف هو إعادة كتابةٍ للماضي من أجل أغراضٍ شخصية أو سياسية». فجعلوا لكل نبيٍ أو مخترع أو فيلسوف أصولًا يهودية؛ ليقنعوا العالم بتجذّرهم تاريخيًا، ولتصبح قضية اليهود جزءًا من قضايا التحرر في الفكر الغربي، وأصبحوا يقدّمون وجهًا دينيًا وثقافيًا في خدمة المجتمع الغربي.

وأخيرًا «احتكار المآسي» واجترار مأساة «الهولوكوست» في كل سياقٍ أو مناسبة، وتضخيم التركيز عليها مع إغفال جميع المجازر التي حدثت في العالم، أو تحدثُ الآن على يد إسرائيل. 

إذا عدنا إلى مسرحية «تاجر البندقية» لشكسبير، فهي تجسد تصوُّر العقل الغربي عن اليهودي، وتمثيله «فنيًّا» في صورة المخادع الكاذب الذي يهمّه جمع المال فقط. لذلك سعى اليهود في الإعلام إلى تغيير ذلك التصور.

فمن منا يستطيع نسيان موسيقا فلم «The Pianist» الفائز بثلاث جوائز أوسكار وأداء بطله المُبكي ومشهد المشي بين ركام مدينته المحترقة أو عودته إلى بيته المتهدم والحنين إلى ذكرياته؟ ومن لا يذكر الفلم الإيطالي الفائز بجائزة الأوسكار كأفضل فلم أجنبي لعام 1997 «Life is Beautiful» الذي عشنا معه أجمل اللحظات المضحكة والمبكية في قصةٍ إنسانية مكتوبة بعناية فائقة وأداء تمثيلي رائع؟ 

إن تلك الأفلام صُنعت بشكلٍ بديعٍ لتكسب تعاطف الجماهير. لكنْ فور معرفتنا بأن الرابط بينها هو اجترار مأساة «الهولوكوست» من جديد والحرص على إبقاء جذوة التعاطف العالمي مشتعلةً تجاهها، يتبين لنا حجم التأثير اليهودي على الإعلام، وعلى العالم كله، وتضخيم أي مأساة يتعرضون لها مع التركيز في فكرة اضطهاد اليهودي لأنه يهودي لا أكثر. 

بالمقابل نرى التعتيم والنكران لمعاناة الشعوب الأخرى ومحاولة إيجاد تبريرات لها؛ كي يبقى اليهود أكثر المعذَّبين في الأرض. وإذا وقعت مجزرة «الهولوكوست» منذ أكثر من ثمانين عامًا فقد ارتكب الاحتلال الإسرائيلي أضعافها على مر العقود بوحشيةٍ دموية. 

وعند العودة إلى مشروع «تهويد المعرفة» نجد أن المشكلة لم تبدأ من الاحتلال الصهيوني لفلسطين، بل بالاحتلال الصهيوني للعقل الغربي الذي سمح له -بل أكَّد حقَّه- في إقامة دولته في فلسطين. ليحتلّ بعد ذلك جميع العقول غير الواعية بجذور القضية، متلاعبًا بمشاعرهم ومزيّفًا علومهم وأبحاثهم.

فيخبرنا ممدوح عدوان أن «العقل الأمريكي والأوربي قبله لا يتعب نفسه في الحديث عن حقوقٍ أو أصول. ليس هناك إلا حقه في الوصول إلى مكانٍ بفضل القوة وخدمةً للأهداف التي يعلنها هو. وبهذه القوة يهدم التاريخ والحضارة ويبيد البشر ويفرض مشروعيته». ليصل إلى النتيجة النهائية من مشروع تهويد المعرفة وهي «أن تمحو تاريخه، لكي تمدّ جذورها في قبوره!»، وعقل العالم، سواءً اعترفنا أم لم نعترف، بات عقلًا غربيًّا.


يختتم ممدوح عدوان كتابه بعبارة «نحن العرب، لم نُقتلَع من الأرض فقط، بل جرت محاولة اقتلاعنا من التاريخ ومن أذهان البشر المعاصرين، حتى العلماء والمتخصصين منهم.»، لهذا فإنَّ وعينا بقضية فلسطين الإنسانية الخالدة وعيٌ تسقط أمامه جميع محاولات تهويد المعرفة. وانحيازنا الكامل لفلسطين دينًا وعروبةً وإنسانية قوةٌ لا نملك رفاهية التخلي عنها في عصرٍ يحاول كل ما فيه من إعلام غربي أن يسلبنا إياها.

المعرفةفلسطينالرأي
نشرة أها!
نشرة أها!
يومي منثمانيةثمانية

نحن ممتنون لزيارتك لمدونتنا، حيث ستجد أحدث المستجدات في عالم التكنولوجيا والابتكار. نهدف في هذه المدونة إلى تقديم لك محتوى ذو جودة عالية يغطي مجموعة واسعة من المواضيع التقنية المثيرة.jj