في ذكرى النكبة: التاريخ الشعبي السعودي والقضية الفلسطينية

يصادف اليوم ذكرى النكبة الثانية والسبعين، فكيف كانت ردود أفعال الشعب السعودي تجاه فلسطين والقضية الفلسطينية منذ البداية وحتى الآن؟

يصادف اليوم ذكرى النكبة الثانية والسبعين، وهي عملية التطهير العرقي المُمَأسسة ضد فلسطين التي أنتجت أكبر أزمة للاجئين في الشرق الأوسط، وهجّرت نحو 700 ألف فلسطيني -أو مليون حسب بعض المصادر- على يد عدد من العصابات والميليشيات الصهيونية، في عملية تعيد للأذهان أفعالًا مشابهة للمستعمرين البيض في أميركا وكندا وأستراليا تجاه السكان الأصليين في أميركا الشمالية والأبورجيون في أستراليا.

وترجع جذور هذه العملية المُمَأسسة إلى مؤتمر الحركة الصهيونية في بازل عام 1897، حتى تأسيس هذا الكيان الاستعماري الغاصب في 1948 باعتراف دولي من بعض الدول. ويذكر لنا إيلان بابيه في كتابه «التطهير العرقي في فلسطين» أن ما حدث في النكبة كان نتيجة لاجتماع قيادات صهيونية عام 1934 اتفقوا فيه على التطهير العرقي ضمن خطة واضحة، نافيًا رواية إسرائيل التي تعد التهجير نتيجة طبيعية في كل حرب، ومؤكدًا وجود قرار وخطة مدبرة، بالإضافة إلى تفنيده أساطير الخطاب الصهيوني الذي يبرر قيام هذا الكيان في كتاب «الخرافات العشر عن إسرائيل».

مؤخرًا تداعت وظهرت بعض الأصوات التي لا تكاد تشيد بأي دور شعبي لشعوب شبه الجزيرة العربية -والسعودية تحديدًا- تجاه القضية المركزية الأولى للمنطقة وشعوبها. ولذا أحاول في هذه المقالة إعادة تسليط الضوء على شيء من التاريخ الشعبي السعودي تجاه القضية الفلسطينية أولًا، وثانيًا فك ملابسات الدعاية الرائجة عن التخاذل السعودي تجاه القضية وأن نسيانها كان نتيجة طبيعية لسيرورة الحياة والاهتمام بالمصالح الوطنية. 

وفي الشق الثالث أحاول تبين الأبعاد الاستراتيجية للتطبيع في الرد على المتحمسين والداعين له، ولماذا ما زالت السعودية تقف مع القضية الفلسطينية ليس فقط بدوافع العروبة والإسلام، بل من باب المصلحة الوطنية على أمنها القومي. وإن كان من الصعب الفصل بين التاريخ الشعبي (تاريخ الناس حسب تعريف هوارد زن) والتاريخ الرسمي (المواقف والتصريحات الرسمية)، إلا أنه يندر تسليط الضوء على التاريخ الشعبي ويُكتفَى غالبًا بالرسمي.

الموقف الرسمي من القضية الفلسطينية

لقاء الملك عبد العزيز وروزفلت

تشكل الموقف السعودي الرسمي من القضية منذ عهد مؤسس البلاد الملك عبد العزيز بحديثه مع الرئيس الأميركي ثيودور روزفلت حول القضية وتصريحه لمجلة لايف الأميركية بأن «الاحتلال الصهيوني ظلم للعرب والمسلمين» إلى عهد الملك سلمان، حيث مثلت المملكة دورًا دبلوماسيًّا وأسست قنصلية سعودية في القدس الشريف، بحسب الأمر الملكي الصادر بإنشاء قنصلية عامة وتعيين الشيخ يوسف الفوزان قنصلًا لها. 

تأسيس القنصلية العامة في فلسطين اصدار رقم 850 – تاريخ 04-04-1941 / أرشيف صحيفة ام القرى

وقد وُثِّقت هذه الجهود في عدد من الأعمال المهمة مثل كتاب «الجيش السعودي في فلسطين» وكتاب «وثائق المملكة العربية السعودية التاريخية: القضية الفلسطينية». ونلتمس هذا الثبات في الموقف السعودي مجددًا في قمة فاس في المغرب عام 1981، حيث أعلن الملك فهد -الذي كان ولي العهد آنذاك- مبادرة لحل الصراع العربي الإسرائيلي.

الموقف الشعبي 

أما الجانب الشعبي فتمثل في المشاركة الشعبية لنصرة الفلسطينيين، إذ كانت هناك عدة مظاهرات مسانِدة أبرزها في عام 1920 في مكة المكرمة، ومظاهرات الطائف المساندة لثورة الفلاحين ضد الإنقليز عام 1936-1939. ومظاهرة في عام 1937 شارك فيها طلاب المدارس والخطباء في مدن المملكة احتجاجًا على تقسيم فلسطين. فكانت هناك هتافات المتظاهرين، وتبادل الخطب بين المجتمعين، والاجتماعات في المساجد، والإضراب بإقفال المتاجر احتجاجًا على تقسيم فلسطين. 

مظاهرات الطلاب والخطباء – اصدار 659 – تاريخ 23-07-1937 / أرشيف صحيفة ام القرى

ورغم شح المصادر عن تفاصيل هذه المظاهرات والمشاركين فيها، فإن أهميتها تكمن في قِدَم هذا الدعم والمساندة والتضامن بين الشعبين. ونتذكر أيضًا حملات التبرع الموثقة في رسالة من أمير صبيا إلى أمير جازان عام 1367 تتضمن تبرع أهالي صبيا بمبلغ 26,275 ريالًا، ويعتذر الأمير في رسالته بأن موسم الزراعة لم يكن بقدر المطلوب وأنهم رهن الإشارة لكل ما يُطلب منهم من نفس أو مال.

اللجان الشعبية

ولا ننسى اللجان الشعبية التي تشكلت في السعودية لدعم المجاهدين الفلسطينيين، والتي كتب عنها عبد الرحيم محمود جاموس في كتابه «اللجان الشعبية لمساعدة مجاهدي فلسطين في المملكة»، فقد كان الجاموس مدير عام اللجان في السعودية التي كانت تأخذ 5% من رواتب الفلسطينيين العاملين في السعودية، وترسلها إلى منظمة التحرير الفلسطينية.

لجنة مساعدة منكوبي فلسطين – عدد رقم 210 – تاريخ 09-06-1936 / أرشيف جريدة صوت الحجاز

وتعود قصة اللجان إلى تأسيسها على يد الملك فيصل بعد حرب 67 عبر 12 مكتبًا موزعًا على مناطق السعودية. وتشكلت لجنة إعانة منكوبي فلسطين ومساعدتهم في جدة عام 1936، وكانت برئاسة الشيخ عباس قطان. كما كان للجمعيات الأهلية والمدنية حضور بتأسيس جمعية الدفاع عن فلسطين في الحجاز. 

وفي عام 1937 شُكِّلَت لجنة أهل الحل والعقد لاختيار لجنة تمثيل السعودية في الدفاع عن فلسطين. وكان عنوان صحيفة صوت الحجاز في هذا العدد «الشعب يعطف على فلسطين»، وذُكِر أن سائر المدن تنتخب لجانًا فرعية.

الدفاع عن فلسطين كرامة العرب – عدد269 – تاريخ 10-08-1937 / أرشيف جريدة صوت الحجاز

وكانت هناك لجان في المدينة المنورة وجدة عَدّت الدفاع عن فلسطين دفاعًا عن كرامة العرب. ويعرف الفلسطينيون هذا الجانب الشعبي من طرف السعوديين. فكان من الجانب الفلسطيني تقدير لشخصيات سعودية متعددة، وكرمت السفارة الفلسطينية في الرياض فهد المارك الذي قاد الفوج السعودي وقاتل الإسرائيليين قبل 60 عامًا. 

صورة النكبة و القضية الفسطينية
فهد المارك يتوسط الفوج السعودي في فلسطين / جريدة الشرق الأوسط

الجذور المشتركة

وعلى المستوى الثقافي أيضًا، كان التبادل التجاري والتشارك الثقافي حاضرًا بين الشعبين في الشعر والرقص وغيرهما من تجسيدات التراث والفلكلور. فنستذكر هنا قصة للشاعر عادي بن رمال الشمري عندما كان في فلسطين وشهد بدايات النزاعات بين الفلسطينيين والصهاينة قبل تأسيس الدولة الصهيونية، ووثق القصة الدكتور سعد الصويان في مشروعه الضخم لتوثيق الشعر النبطي في شمال الجزيرة العربية.

فقد كان ابن رمال وأخوه في فلسطين يبحثون عن لقمة العيش، وشاهدوا صهاينة يضربون رجلًا فلسطينيًّا. ولم يتحمل ابن رمال فصوب بندقيته صوب الصهاينة للإطلاق عليهم، لكن أخاه نهاه عن ذلك وقال: «اتركهم. وهذولا ناس نبتلش أنا ويّاك، ويجرى لنا جواري ماهي زينة». بعدما اقتنع ابن رمال وقال: «أجل والله ما أجلس بالأرض اللي يهان بها مسلم» وقرر العودة إلى حائل مع أخيه. 

النكبة و القضية الفلسطينية - رقص الدحة
امراة بدوية فلسطينية ترقص الدحة / PICRYL

وهناك العادات والتقاليد الفلكلورية التي تتشاركها البادية في شمال الجزيرة العربية، مثل رقصة «الدحة» المشهورة في شمال الجزيرة العربية، و«الدبكة» في بلاد الشام التي توجد في كلا البلدين بأشكال مختلفة. ففي فلسطين تسمى الدحة بـ«الدحية» وتتنوع الدبكة في أنواعها التي تزيد عن 20 نوعًا من الدبكات تصاحبها أنواع من الآلات الموسيقية والغناء في الأفراح والمناسبات. وهذا يدل على أن جذور الشعبين مشتركة وقديمة ولا يمكن قطعها وتحييد الشعبين ضمن الحدود الجغرافية.

فلسطين في أشعار الجزيرة

وكما أن فلسطين عُرِفت بشعرائها مثل توفيق زياد الذي كان ينشدنا: «أناديكم. أشد على أياديكم. أبوس الأرض تحت نعالكم وأقول: أفديكم»، وإبراهيم طوقان ونشيد موطني: «موطني. الجلال والجمال، والسناء والبهاء في رباك»، ومحمود درويش الذي تغنى:

 سيدة الأرض، أم البدايات وأم النهايات. ويذكرنا أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة.

كان للأدباء السعوديين نصيب من هذا التعبير والتضامن. فلا ننسى رجل الدولة الشاعر د. غازي القصيبي الذي كان هاجس القضية الفلسطينية حاضرًا في شعره في عدد من القصائد، مثل «الموت في حزيران» وقصيدة «شهداء» ورثائه لمحمد الدرة الصبي الفلسطيني الذي مات في حضن أبيه في «يا فدى ناظريك!». وهذا الحضور لفلسطين منحه لقبًا من بيت فلسطين للشعر وثقافة العودة برام الله وهو «شاعر العودة»، تقديرًا لمسيرته الشعرية المناصرة للحق الفلسطيني في العودة وتقرير المصير.

وكذلك الشاعر حسن عبد الله القرشي الذي كتب ديوانًا بعنوان «فلسطين وكبرياء الجرح»، وسعد البواردي في ديوانه «صفارة الإنذار»، وعبد السلام هاشم حافظ في ديوانه «أغنيات الدم والسلام» وغيرهم أيضًا مثل عبد الله بن خميس وعلي الدميني وعبد الله الصيخان. 

لا سلام مع إسرائيل 

ظلّ الموقف الرسمي العربي يأبى السلام مع إسرائيل إلا بقبول مبادرة السلام العربية التي قدمتها السعودية، لكن الخطاب الشائع، الذي يُتناوَل في أوساط منصات التواصل الاجتماعي ومن بعض الكُتاب في الصحافة المحلية والعالمية، يرمي إلى أن الشعوب العربية ترحب أكثر بفكرة «السلام» مع إسرائيل أو ما يُعرَف بالتطبيع.

مظاهرات في المغرب ضد التطبيع مع إسرائيل

فتُردَّد سردية مكررة وهي أن إسرائيل واقع لا بدّ من التعامل معه والقبول به. وهذا الكلام في ظاهره صائب لكن الخلاف هو وجه الاعتراف، فهل نعترف بأنه كيان طبيعي؟ أم نعترف به وبواقعه بصفته كيانًا استعماريًا توسعيًا له وجود تاريخي لا بد من زواله؟

ودائمًا ما يعبر أصحاب هذا الخطاب بأننا لم نستفد شيئًا من دعم الفلسطينيين. وعلى افتراض أننا لم نستفد شيئًا من مقاطعة إسرائيل، إلا أن القبول والاستسلام لكيان استعماري يشكل خطرًا دائمًا على المنطقة يُعدّ الخيار الأخطر بكسر حالة العداء. 

الخطاب الاستشراقي 

يتردد على مسامعنا أيضًا أن الفلسطينيين ناكرون للجميل، فلماذا ندعمهم؟ وهنا نجد مشكلة في هذا الخطاب. هذا الخطاب نحن وهم «الآخر» خطابٌ استشراقي بامتياز وقد فصّل إدوارد سعيد في ثلاثية الاستشراق عن كون هذا الخطاب الذي «يستغرب الآخر» ويجعله «مختلفًا» ينبع من المؤسسات الإمبريالية والاستعمارية تاريخيًا. وفي الحالة العربية، فهذا النوع من الخطاب يمثل أيدولوجيا تنبع من الدعاية الصهيونية والإمبريالية في المنطقة التي تسعى لفرض الهيمنة «القرامشية» واستمرارها اقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا. 

فهذا الخطاب لا يناقش أحقية العرب في أرض عربية أو ينظر حتى إلى المصالح الوطنية للبلاد، بل يغلّب مشاعر وتصورات ذهنية نمطية غير دقيقة عن الآخر.

التعاون ضد إيران 

والذريعة الأخيرة التي تتردد لتبرير التطبيع مع إسرائيل هي التعاون مع إسرائيل ضد إيران. وقد لا يكون التعاون مع إسرائيل الحل الأمثل للتعامل مع التوغل الإيراني في المنطقة، إذ تسعى السعودية لمنطقة مستقرة وسالمة خالية من الاضطرابات والقلاقل. 

والملف النووي من المشاكل التي ترى السعودية وجوب وجود حل لها في المنطقة. نستذكر تصريح وزير الخارجية السابق الأمير سعود الفيصل بأن الجهود لتخليص المنطقة من الأسلحة النووية يشمل كلًا من إيران وإسرائيل. فلا ترى السعودية وجود كيان في المنطقة لديه النفس التوسعي ويمتلك أسلحة فتاكة على أنه كيان طبيعي. بل على غرار إيران، يجب على إسرائيل أن تتخلص من السلاح النووي وأن تكون البداية من إسرائيل «أولًا». حيث إن إيران وإسرائيل وجهان لعملة واحدة فيما يخص الملف النووي.

الدعاية الرائجة عن التخاذل السعودي تجاه فلسطين

لا تنسجم نتائج استطلاعات الرأي مع الدعاية الموجودة عن تخلي السعوديين عن القضية الفلسطينية. فبحسب استطلاع رأي لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، والمعروف بتحيزه الكامل لإسرائيل، فإن 7% فقط من السعوديين يوافقون على عمل الدول العربية مع إسرائيل في قضايا مكافحة الإرهاب والتعاون التكنولوجي وغيره.

كما أن أكثر من 80% من السعوديين لا يؤمنون بجدوى مبادرات الرئيس ترمب لحل الصراع العربي الإسرائيلي. وفي تقرير للاستطلاعات من المعهد العربي الأميركي عام 2016، يرى السعوديون كغيرهم من أقرانهم العرب أن أكبر عقبة للاستقرار والسلام في المنطقة هي الاستمرار في احتلال الأراضي الفلسطينية. والأهم أن 80% من السعوديين، حسب مؤشر الرأي العربي، يرون أن القضية الفلسطينية شأن عربي وليس مقتصرًا على الفلسطينيين وحدهم.

سياسة الحسبرة

من أين إذن تأتي مثل هذه الدعايات والخطابات ضد الفلسطينيين؟ تسعى إسرائيل لتجميل صورتها ونشر خطاب مناصر لها، وتسمى هذه السياسة باسم «حسبرة». حيث تمول حكومة الاحتلال الإسرائيلي برامج دعائية مكثفة لتلميع صورة تل أبيب من جهة، وعزل الفلسطينيين عن محيطهم العربي من جهة أخرى، وذلك عن طريق توجيه دعوات للصحفيين والمشاهير والفنانين لزيارة إسرائيل والتعرف على ثقافتها وحضارتها.

لكن الشق الآخر من هذه البرامج هو الجيش الإلكتروني الذي تستخدمه إسرائيل لنشر البروباقندا الإسرائيلية، لحماية سرديتها ضد الدعايات المناهضة لها ولوجودها. وتُوظَّف مجموعة تُعرف بمجموعة دفاع الإنترنت اليهودية التي تدخل في وسائل التواصل الاجتماعي وتستهدف أي كتابات أو مجموعات تعادي إسرائيل. وكثيرًا ما تعول عليها قيادة الليكود للترويج لآرائهم ووجهات نظرهم ونشر الأخبار المعادية للفلسطينيين.

من هنا نفهم السياق العالمي ضد إسرائيل في الضغط عليها وكشف عورة جرائمها خصوصًا في حركة المقاطعة BDS. 

الأبعاد الاستراتيجية 

وأخيرًا القول إن إسرائيل مشروع استيطاني توسعي ليس كلامًا عفى عليه الزمن، بل هو لب المشروع الصهيوني. حيث يذكر ثيودور هيرتزل في كتاب «الدولة اليهودية» ضرورة وجود حركة قومية تجمع شتات اليهود، ليس فقط بهدف إنشاء دولة تكون وطنًا ليهود العالم، بل إن هذا الكيان الغريب سيكون رأس الحربة للمشروع الإمبريالي في المنطقة قائلًا:

ومِن هناك سوف نشكل جزءًا مِن استحكامات أوربا في مواجهة آسيا كموقع أمامي للحضارة في مواجهة البربرية. وعلينا -كدولة طبيعية- أن نبقى على اتصالٍ بكل أوربا التي ستكون مِن واجبها أن تضمن وجودنا

ويُفهَم من النص أن هذا المشروع الصهيوني يرى نفسه امتدادًا للتنوير الأوربي لتعليم الشرق المتخلف. إذ يقول الرئيس الإسرائيلي السابق بن قورين عن إخراج العرب من فلسطين: «علينا أن نفعل كل شيء كيلا يرجعوا يومًا، لا نريد أن يصبح الإسرائيليون عربًا. من واجبنا أن نكافح روح بلاد الشام التي تفسد الأفراد والمجتمعات، ونحافظ على القيم اليهودية الأصيلة كما تبلورت في الشتات [الأوربي]». 

و في عام 2017، شدد سفير إسرائيل في أستراليا نفتالي تمير على ما يلي: 

نحن في آسيا بدون خصائص الآسيويين، ليس لدينا جلد أصفر وعيون مائلة. آسيا هي في الأساس العرق الأصفر. أستراليا وإسرائيل ليستا كذلك. نحن في الأساس من العرق الأبيض

المشروع الاستعماري

هذا الكيان الاستعماري لا يتحرك من عبث، بل هو رأس الحربة لهيمنة القوى العظمى. يقول بيرجينسكي، مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس كارتر وعراب «كامب ديفيد» في كتابه المشهور «رقعة الشطرنج الكبرى»، إن المصالح الأميركية في العالم استراتيجية وعملية وليست أيديولوجية، ويجب على الولايات المتحدة أن تمنع أي دولة من الهيمنة في أوربا وآسيا لحماية المصالح الأميركية الجيوسياسية والقومية. وإسرائيل تؤدي هذا الدور المهم في حماية المصالح الإمبريالية والسعي لعدم وجود أي قوة تعكر هذه الهيمنة.

وهذا ليس كلامًا من نسج الخيال، فقد كان من الممكن أن تكون الجزيرة العربية ضحية لهذا المشروع. فأحد مقترحات الصهيونية التي قُدمت لبلفور وزير الخارجية البريطاني كان من أحد الأطباء الروسيين في فرنسا الذي أرسل خطابًا مع خطة مفصلة يقترح فيها إنشاء دولة قومية ووطن لليهود في الجزيرة العربية، وتحديدًا في الأحساء شرقي المملكة. 

النكبة و القضية الفلسطينية - خريطة الأحساء
خريطة الأحساء في الرسائل المتبادلة بين الطبيب الروسي والسفير البريطاني / المكتبة البريطانية

وبحسب المقترح الموجود في الأرشيف البريطاني بالمكتبة العامة البريطانية، فإن الطبيب الروسي روثنشتاين بعث رسالة إلى السفير البريطاني في فرنسا في سبتمبر 1917، يطلب فيها دعمًا عسكريًا بريطانيًا لإنشاء دولة لليهود مطلة على الخليج العربي. وتضمن الطلب أن تقوم قوة عسكرية يهودية قوامها 120 ألف جندي باحتلال واحة الأحساء شرقي السعودية، وإخراجها عن سيطرة الدولة العثمانية. 

ونصَّت الخطة على أن تهاجم القوات، ما إن يبلغ عددها 30 ألفًا، هجومًا مباغتًا للسيطرة على الأحساء، انطلاقًا من البحرين التي كانت آنذاك محمية بريطانية، لتبدأ بذلك عملية بناء دولة اليهود. وشدد الطبيب في رسالته إلى السفير البريطاني على أن القوة اليهودية ستتولى أي رد عسكري محتمل من العثمانيين. 

بعث السفير البريطاني الرسالة إلى وزير الخارجية البريطاني آنذاك آرثر بلفور، ولاقت الرفض من لندن. وقد يكون السبب أن بريطانيا وقتها كانت تعترف بالملك عبد العزيز حاكمًا للأحساء حسب نص اتفاقية دارين عام 1915.

الاستثمار ضد التطبيع 

من الناحية الاقتصادية، لم يُكسب التطبيع مع إسرائيل الدول التي طبَّعت ولم يضِف شيئًا لأي دولة تسعى للتطبيع. ولنا في تجارب الأردن ومصر واتفاقية أوسلو خير مثال.

فكون إسرائيل دولة استعمارية يعني بالضرورة وجود شعب مستعمَر يخوض مشروع تحرر وطني ضد كيان مستعمِر، مما يجعله كيانًا غير مستقر وبيئة غير مشجعة للاستثمار.

والمفارقة أن الدخول في اتفاقيات سلام مع إسرائيل ترافَق تاريخيًا مع تراجع اقتصادي وتنموي كبير في تلك البلدان. فلم تكسب أي من هذه الدول أي قيمة تنموية من هذا السلام البارد، بل كسبت معارضة شعبية وبغضًا لسياساتها.  

المملكة وصفقة القرن

من هنا تنطلق سياسة السعودية في وقوفها مع القضية الفلسطينية ليس من باب الأخلاق والواجب فقط، بل لأن للقضية أبعادًا تتعلق بأمن السعودية الوطني والقومي، والتنازل عن القضية يعد تنازلًا استراتيجيًّا يمس الأمن القومي المبني على تغليب المصلحة ودفع المضرة. وهذا هو أساس السياسة الخارجية المبنية على مصالح جيوسياسية واقتصادية ومقتضيات الأمن الوطني. 

وبهذا نفهم تصريح السعودية إبان إعلان ما يُعرف بصفقة القرن وعقد اجتماع طارىء في الجامعة العربية لرفض الصفقة. لأن قبول صفقة القرن -التي تقوم على المنطق المعاكس لمبادرة السلام العربية التي بدأت من عهد الملك فهد- يعني نزع تسييس القضية وإلغاء قضية الحقوق الفلسطينية في تقرير المصير وحق العودة في أي عملية سلام مستقبلية. ولا تخدم الصفقة أيضًا الأهداف الاستراتيجية للسعودية، فهي تبعد التركيز عن إيران وتخرجها من رادار الخطر الإقليمي وتصرفها عن أهداف ضمان استقرار المنطقة وأمنها.

أرض أكبر، عرب أقل

على الرغم من المبادرات العربية لإيجاد حل للقضية الفلسطينية تاريخيًا، ما زال هذا النظام لا يحترم المبادرات الجادة في الوصول إلى حل، ويمارس سياسة التهجير والإحلال وفق قاعدة: أرض أكبر، عرب أقل. ناهيك عن ضربه للقرارات الدولية في مجلس الأمن والأمم المتحدة عرض الحائط، متجاهلًا كل الالتزامات والقوانين الدولية. 

هذه قضية احتلال شعب وهيمنة على المنطقة. ولذلك تتكثف حول فلسطين رمزية كبيرة ليس عند العرب فحسب، بل عند شعوب الجنوب العالمي كونها قضية «معذبو الأرض» بتعبير فرانز فانون.

وفي الختام، ما علينا إلا أن نتذكر أن فلسطين ليست قضية الفلسطينيين فقط، ولا حتى العرب، بل هي قضية شعوب العالم الحرة باعتبارها آخر حالة استعمارية إحلالية حتى اليوم منذ زمن الاستعمار التقليدي، وكما قال محمود درويش في قصيدة «على هذه الأرض»: 

كانت تسمى فلسطين. صارت تسمى فلسطين. سيدتي: أستحق، لأنك سيدتي، أستحق الحياة

التاريخالسعوديةالقضية الفلسطينيةفلسطينالسلطة
المقالات العامة
المقالات العامة
منثمانيةثمانية