الأدب بوصفه وسيلة لتنمية حس العدالة
كيف للأدب العالمي أن يساعدنا في تصور العدالة وتنمية حسنا تجاهها؟ وماهي الأعمال التي صورت العدالة ويقظة الضمير؟
” إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ”
كان الفيلسوف اليوناني سقراط الذي انتهت حياته بطريقةٍ مأساوية، يطلب تعريف وتحديد المفاهيم بطريقة محكّمة وصحيحة قبل مناقشتها. تساءل كثيرًا عن معنى العدالة، هل هي التقوى أم القوة؟ من هو الفرد العادل؟ ما هي الدولة العادلة؟ إلا أنه أعدم بتجرع السم قبل أن يجد أجوبةً ربّما لا توجد على الإطلاق.
معيار العدالة
كانت والدة الروائي الأميركي نيكولاس سباركس تردد دائمًا:
إن الحياة هي حياتكم، لم يقل أحد أبدًا أن الحياة عادلة، ما تحظى به وما تريده عادةً هما أمران مختلفان
تبدو أمًا قاسية، لكنها لم تحاول تشذيب الحقيقة أو تجميلها. العدالة أمر معياري، حيث تعبر عمّا يجب أن يكون. الإشكالية في الفرضية المسبقة بعدالة الحياة، وتوقع أن تجري الأمور بناءً على فرضية لم تُثبت!
الأدب بوصفه وسيلة لتنمية حس العدالة
لسنا متأكدين ما إذا كان الإنسان مزودٌ بحسٍ فطري لمناصرة العدالة ومناهضة الظلم، أو لنقل القدرة على رؤية الأمور المنافية للعدالة. إن ما تُساهِم به القضايا المرتبطة بالعدالة والحقوق التي تُطرح في الكلاسيكيات الأدبية، هي تنمية لحس العدالة وإيقاظ الضمير.
ومن الجلي بأن طرح موضوع العدالة يختلف في الأدب عن الفلسفة والسياسة والقانون. قد لا يكون حضوره مباشرًا لكنه موضوع حاضر ضمنيًا على الدوام. في حين ينشغل الفلاسفة والسياسيين والقانونيين بوضع تعاريف للعدالة وتحديد معاييرها وإجراءاتها، والكثير من التنظير والمقاربات من أجل فهم العدالة، يقوم الأدباء المدفوعين بالحدس، بمناقشة العدالة من وجهات نظر مختلفة، قد لا تؤخذ بالاعتبار في مجالاتٍ أخرى.
على سبيل المثال، الخارجين عن القانون الذين يملكون دوافع عادلة باعتبارهم. يطرح الأدب بعالميته وتجاوزه الحدود قصص تجعلنا نفكر بالآخر ونتجاوز ذواتنا ومحيطنا. ليست النهاية السعيدة العادلة في الروايات هي ما تجعلنا نرغب في أن يكون عالمنا أكثر عدلاً ومساواة، بل على العكس، يغلب طابع المأساة على الأعمال الشهيرة، مأساة الوجود البشري، والفقر، والحرية المسلوبة، والصراع مع الآخر، والجريمة، والسجن، والحرب، والموت.
لماذا الأدب؟
ربما تكون قراءة الأعمال الأدبية مثيرة للاهتمام ومتاحة أكثر من بقية المجالات. فالأدب بطبيعته ليس مجالًا تنظيريًا أو وعظيًا، قد تكون المتعة سببًا كافٍ لقراءة عمل أدبي. لكنه يساهم بفاعلية في تصور العدالة من خلال الشخصيات والقضايا التي تناقش في عملٍ ما. كذلك يتيح الأدب ميزة دمج الذات مع الموضوع، على عكس المجالات الأخرى، فنجد أنفسنا في نهاية المطاف مدركين لقيمة الإنسان وكرامته، وهذا الإدراك يجعلنا أكثر إنسانية ومواقفنا أكثر عدلًا.
نماذج من الأعمال الأدبية
وهنا نلاحظ بأن الغرض في الأمثلة القادمة ليس مناقشة العمل الأدبي، بل تتبع الحس الأدبي الذي يقودنا إلى العدالة الكامنة في السياق الروائي. وتتنوع النماذج ما بين الأعمال الكلاسيكية، والبوليسية، والديستوبيا.
الجريمة والعقاب: الدافع العادل لجريمة
الدوافع هي ما تحرك البشر للقيام بأفعال خيّرة أو سيئة، نقوم بالحكم على أفعال الآخرين من خلال أفعالهم لا من خلال دوافعهم، لكن ماذا لو كان الفعل الذي نراه سيئًا يحمل دافعًا عادلًا وأخلاقيًا كذلك؟ ماذا لو اعتقد المجرم بأنه سيقوم بفعلٍ خيّر. تبدو مفارقة، لكن هذا على الأقل ما اعتقده راسكولنيكوف بطل رواية الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي”الجريمة والعقاب”
أنت الآن تتكلم وتتحدث، ولكن قل لي: أأنت مستعد لأن تقتل العجوز بنفسك؟
لا، طبعًا! .. فإنما أنا أتكلم من وجهة نظر العدالة، ولست أتحدث عن نفسي..
في رأيي أنه ليس هناك ظل من عدالة، ما دمت غير مستعد لأن تقرر تنفيذ هذا الفعل بنفسك. والآن هلم بنا نلعب البلياردو!
هذا جزء من حوار طويل جرى بين ضابط وطالب تناهى إلى سمع راسكولنيكوف، حول العجوز التي رهن عندها خاتمه الذهبي، العجوز التي تقرض خمسة آلاف روبل دفعة واحدة! لكن ما هي وجهة العدالة التي تكلم بلسانها الطالب؟ قتل العجوز وأخذ مالها لوقفه على الخدمة الإنسانية بأسرها. أننا بقتل فرد واحد نستطيع أن ننقذ حياة ألوف غيره من العفن والفساد والتحلل! هل هذه حسبة عادلة؟ هل نستطيع وضع قيمة للحياة الإنسانية مقابل المنفعة؟
ربما نجد جوابًا في فلسفة النفعية التي تقيس منفعة فعل ما للحكم عليه، رغم الاعتراضات الشائعة بأن المنفعة غير قابلة للقياس، أو اعتراضات أخرى تتمثل في أن تطبيق النفعية يؤدي إلى عدم احترام حقوق الفرد وحقوق الأقليات. لكن لنعد إلى راسكولنيكوف الذي ظن بغرور نابليوني أو بسذاجة أن له الحق في قتل العجوز باعتبار أن دوافعه عادلة، قد حلت عليه عقوبة أشد من عقوبة القانون، وهي عذاب الضمير الذي ساهم في عقابه وتطهيره.
ثم لم يبق أحد: خرق القانون من أجل العدالة
تطرح رواية “ثم لم يبق أحد” للروائية الإنقليزية أقاثا كريستي موضوع شائك، وهو شرعية خرق القانون لتحقيق العدالة. خلف سطور القصة البوليسية الشيقة التي تحكي قصة عشرة غرباء يلتقون في جزيرة، لم يظهر المضيف الغامض عند وصولهم، بل ظهر تسجيل يشير إلى كل واحد منهم بأصابع الاتهام. لتتوالى العقوبات التي تبدأ باختناق أحدهم فيبقى تسعة، وتنام إحداهن فلا تستيقظ، فيبقى ثمانية… ليبدأ جو من الشك والريبة والاتهامات المتبادلة ومحاولة معرفة ما يجري وسط ذهول تام من أن ما يحدث حقيقي وليس مجرد خدعةٍ ما.
ننهي القصة لتنهال علينا الكثير من الأسئلة: هل نملك سلطة إسقاط العقوبة التي يملكها القانون؟ وهل القانون هو السبيل الوحيد لتحقيق العدالة؟ ماذا علينا فعله في حال أن القانون لم يصل إلى إدانة المتهم؟ هل من خرق القانون يعتبر شخص صالح لكونه ساهم بتحقيق العدالة، أم سيء بخرقه للقانون أم مجرم لكونه عاقب من لم تثبت إدانته؟ ويبدو أن البطل الذي أطاع القانون طيلة حياته أجاب على هذا السؤال بفعله الأخير.
البؤساء: الظلم والمعاناة البشرية
ربما يكون أحد أكثر المشاهد العالقة في أذهان القرّاء مشهد سرقة جان فالجان، بطل رواية الكاتب الفرنسي فيكتور هوجو “البؤساء”، لأوانٍ فضية من بيت الأسقف الذي استضافه وأحسن إليه في الوقت الذي عامله الجميع بقسوة. بعد أن قبضت عليه الشرطة بجناية السرقة، أحسن الأسقف إليه وادّعى بأنه اعطاه هذه الأواني ليبدأ جان فالجان حياة جديدة، بعد أن قضى تسعة عشر عامًا في السجن لسرقته الخبز ولمحاولته الهرب عدة مرات.
قد يبدو أن سجن فالجان بتهمة السرقة عقوبة غير عادلة، لكن هل يمكن أن يكون الفقر مبررًا للسرقة والجريمة؟ لطالما اعتبرنا السرقة فعل خاطئ ومنافٍ للأخلاق، لكن من وجهة نظر مذهب الحتمية قد تكون السرقة نتيجة حتمية للفقر. ربما يخفف هذا من المسؤولية الأخلاقية للسارق، كونه نشأ في نظام اجتماعي طبقي تتحدد فيه الفرص منذ الولادة.
ترشدنا الرواية إلى أن الإحسان ينبغي أن يكون قبل العدالة، ولا تنتج الأفعال السيئة عن شر محض. البؤساء ليست مجرد رواية تناقش الظروف الاجتماعية والسياسية في فرنسا بالقرن التاسع عشر، بل عملًا أدبيًا موجهًا للإنسانيةِ كافة.
كوخ العم توم: العدالة والفطرة
صوّرت الكاتبة هيريت ستو في روايتها “كوخ العم توم” حياة الزنوج الأميركيين قبل الحرب الأهلية، أثارت الرأي العام ضد المظالم على الزنوج، وعلى إثرها كانت حرب التحرير، وتم نصر الشمال على الجنوب.
تدور أحداث القصة حول العم توم الخادم الطيّب الذي يضطر سيده لبيعه، فينتقل إلى سيد آخر وتتوطد علاقته مع ابنته الصغيرة إيفا، التي ترى ببصيرة حق الحرية للعبيد وتضع نفسها على قدم المساواة معهم “كم أتمنى يا بابا لو أراهم كلهم أحرارًا، أليس ثمة طريقة لتحريرهم؟ إن هؤلاء البائسين يحبون أولادهم بقدر ما تحبني أنت، افعل شيئًا من أجلهم”.
لا عجب من أن يتسنى لطفلة هذا الإدراك، فالأطفال مثل الفلاسفة، يتساءلون كثيرًا، ولا يغوصون في فرو الأرنب ويعتادون على العالم كما هو، على خلاف المجتمع الذي نشأت فيه إيفا، مجتمع يتصالح مع فكرة العبودية، ويرى أن الزنوج حلقة وسط بين الإنسان والحيوان فلا ضير أن يقوموا بأعمالٍ شاقة ولاإنسانية.
يتساءل جورج أحد أبطال الرواية عن مصدر سلطة سيده -ما يدعى اصطلاحًا سيده- “سيدي! ومن الذي يجعله سيدي؟! ذلك ما يقض مضجعي. أي حقٍ له علي؟ أنا إنسان بقدر ما هو إنسان، بل إنني أخيرُ منه. فأنا أعلم بالتجارة منه، وأقرأ خيرًا مما يقرأ، واكتب بخطٍ جميل، لقد تعلمت كل ذلك بنفسي رغمًا عنه”
يتضح بأن أولى خطوات التحرر من العبودية، إدراك من تم استعباده بأنه سيدُ نفسه. تطرح الرواية الكثير من الأسئلة حول جوهر الرق والعبودية، وكيف يمكن لمجرد أن يكون الإنسان زنجيًا أن يسلب منه ماله، ويتم تكليفه بأعمال شاقة، بل وجعله ينفذ إرادة سيده طوال حياته لا إرادته؟
تساءل الفلاسفة كثيرًا عن الحرية واستهل الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو عقده الاجتماعي بهذه الحقيقة الواضحة “وُلِد الإنسان حرًّا، وفي كل مكان، هو الآن يرسف في الأغلال”. إن كوخ العم توم دليلٌ واضح على قدرة الأدب على صناعة ثورة وتغيير اجتماعي لأجل عالم أكثر عدلًا.
1984: عالم مستبد عادل
أما رواية جورج أورويل 1984، التي تنتمي إلى أدب الديستوبيا، تصور دولةً شمولية يحكمها الحزب الذي على رأسه الأخ الكبير. يبدو عالم 1984 من وحي الخيال، فالحزب يتحكم في كل شيء ويراقب كل شيء وشعاره “الأخ الأكبر يراقبك”، عن طريق شاشات المراقبة التي تنتشر في الشوارع والمنازل، مما يجعل الخصوصية كلمةً بلا معنى. وبوجود شرطة الفكر الخفية التي تقوم بإعدام كل من يشكل خطرًا على النظام، تتلاشى الثقة والأمان في العلاقات وتصبح حتى علاقة الآباء بأبنائهم مرهونةً بالإخلاص للحزب.
لا يفعل الحزب كل هذا ويكتفي، بل يتفنن بغسل أدمغة الناس عن طريق ابتكار لغة جديدة لتضييق مدى الفكر، يريد ألّا يكون لك كلمات تعبر فيها عن أفكارك. ويتلاعب الحزب أيضًا بالتاريخ، وببساطة يمد يده لأي حادثة وقعت في الماضي ثم يقول أنها لم تقع ولم تكن! ببساطة تمزق هذه السلطة أدمغة الناس إربًا إربًا، ثم تجمعها معًا ثانيةً بأشكالٍ جديدة. يخفي بطل الرواية الذي يعمل في وزارة الحقيقة كراهيته للحزب، فهو يؤمن بأن حرية الفكر لا يمكن الوصول إليها “باستطاعتهم أن يجعلوك تقول أي شيء، لكن ليس باستطاعتهم أن يجعلوك تؤمن به” يلتقي بامرأة تعمل في ذات الوزارة، وتشاركه ذات الأفكار، يتعرفان على الأخوية التي تنوي الإطاحة بالحزب، وتتوالى الأحداث لنعرف ما إذا كان الحزب قادرًا على أن ينتصر على حرية الفكر، أم لا.
تنتقد الرواية السلطة المطلقة للأنظمة الشمولية التي تدّعي العدالة والمساواة للجميع، بينما هي في حقيقة الأمر توغّل سلطتها في كل شيء، لدرجة أن تكون الحرية هي قدرتك أن تقول 2 + 2= 4.
الرمزية
وكما ذكرنا سابقًا فالأدب بعالميته ورمزيته، يساهم في تنمية حس العدالة وإيقاظ الضمير من خلال القضايا التي يطرحها.
وفي نهاية المطاف، وربما إلى يومنا هذا، لم نجد جوابًا لتساؤلات سقراط عن ماهية العدالة. ولكن يخبرنا الحدس والخبرات البشرية المتراكمة أن العدالة ستأخذ مجراها يومًا ما. وكما تنبأ سقراط الحكيم بأن الأثنيين سيصيبهم الضرر أكثر مما يصيبه، إذا حكموا عليه بالموت. تحققت نبؤته، وساهم إعدامه في خلود أفكاره لقرونٍ عديدة.