الجريمة بين الإعلام والأدب والسينما

حكاية السفاح محمود أمين سليمان نموذجًا مثاليًا سرعان ما التقطه الخيال الجمعي للمثقفين والعامة على حد السواء، لتصاغ منه أسطورة سعيد مهران ومنتصر..

في صباح العاشر من أبريل عام 1960، استيقظت القاهرة على عنوان عجيب يتصدر «الأخبار»، الصحيفة اليومية الشعبية التي لم تكن قد أُمِّمت بعد. العنوان في حقيقة الأمر عنوانان كتبا على سطرين بحجم مقارب: يعلن الأول عن «مصرع السفاح» والثاني يقول أن «عبد الناصر في باكستان». لكن، وبتواصل بصري منطقي، قرأ غالبية المصريين مانشيت جريدتهم اليومية هكذا: مصرع السفاح عبد الناصر في باكستان!

سعيد مهران السفاح
مانشيت صحيفة «الأخبار»

سحبت نسخ الصحيفة من الأسواق بطبيعة الحال. وقيل أن الواقعة كانت من الأسباب الرئيسية للتعجيل بصدور قرارات تأميم الصحافة المصرية ونقل ملكيتها للدولة، القرار الذي صدر في الرابع والعشرين من مايو، أي بعد 44 يومًا فقط من عنوان «الأخبار».

يصعب تأكيد نظريات أسباب التأميم رغم شواهد التاريخ، لكن الأكيد أن الخطأ غير المقصود كان أشبه بستار أنزل بين فصلي مسرحية مثيرة، إجرامية واجتماعية وسياسية وإعلامية، فصلها الأول -الواقعي- حكاية السفاح الذي شغل الرأي العام حتى لقى مصرعه، وفصلها الثاني -الخيالي- هو الملحمة الشعبية التي نُسجت حول الرجل والتي أثمرت عن رواية تاريخية، ثلاثة أفلام ومسلسل، وعشرات الشهادات والدراسات والمقالات والتحليلات.

سمات البطل الشعبي

تابع عموم المصريين، ومن بينهم أديب نوبل نجيب محفوظ، القصص الإخبارية الساخنة التي تقصت أفعال السفاح محمود أمين سليمان بشكل يومي، ونسجت له صورة أسطورية كبطل شعبي لا يسرق إلا من الأغنياء ولا يؤذي البسطاء، حاذقٌٌ، عظيم القدرات حير خبراء الشرطة بلا جدوى، وصاحب مبدأ ارتكب جرائمه انتقامًا ممن خانوه: زوجته ومحاميه وبعض المقربين ممن آمن بأن علاقة غير شرعية جمعتهم بزوجته. 

لم تتوقف الأساطير حول محمود أمين سليمان إلى يومنا هذا. فبسهولة، يقع الباحث عبر الإنترنت في فخاخ روايات متضاربة لا تنتهي، منها ما يكشف عن انبهار بعض المثقفين الشديد بالرجل. فروى الشاعر أحمد فؤاد نجم عن سجنهما في زنزانة واحدة ومساعدته السفاح في بلوغ النافذة كي يحادث زوجته. 

وكتب السيناريست محفوظ عبد الرحمن عن ذكرياته مع دار النشر التي أنشأها سليمان في عمارة ستراند بوسط البلد. وتداول الصحفيون حكايات يصعب تصديقها حول قيامه بسرقة فيلا أم كلثوم ونخلة ذهبية أهداها أمير البحرين للشاعر أحمد شوقي، بل واتصاله هاتفيًا بالرئيس جمال عبد الناصر يعرض عليه جلب رأس عبد الحكيم قاسم، الرئيس العراقي الذي لم يكن على وفاق مع عبد الناصر آنذاك.

هذه الروايات التي يستحيل تمييز الصدق من المبالغة فيها -وأكثرها أقرب للخيار الثاني- يمكن أن تخبرنا بأمرين: ميل الوجدان الجمعي المصري لفكرة اللص الخارج عن القانون، وعبقرية نجيب محفوظ الأدبية.

سعيد مهران السفاح 1
لحظة مقتل محمود أمين سليمان / كتاب سفاح مصر

 روبن هود المصري

أحب المصريون عبر التاريخ حكايات الشطار والعيارين، اللصوص الشرفاء الآتين من قاع المجتمع لإقلاق نوم السادة وتهديد ممتلكاتهم. والقصص المصري الشعبي مليئ بسير أشخاص مثل علي الزيبق (الزئبق بالنطق المصري كناية عن صعوبة الإمساك به) وأدهم الشرقاوي (المغامر قاتل الإنقليز) وغيرهما. أشخاصٌ هم بالتعريف النصي لصوص وقتلة وخارجون عن القانون، بينما يمجدهم الوجدان الشعبي ويحكي الرواة قصصهم مسجوعة في المقاهي وجلسات السمر. 

لذا كانت حكاية السفاح محمود أمين سليمان نموذجًا مثاليًا سرعان ما التقطه الخيال الجمعي للمثقفين والعامة على حد السواء، لتصاغ منه أسطورة معاصرة لا قيمة لمدى دقتها مقابل ما تحمله من حفاوة بقيم التمرد والجرأة والكرامة بمفهومها الشعبي.

أما عبقرية نجيب محفوظ فتثبتها قدرته الفطرية على القفز وراء التفاصيل وعدم السقوط في فخ الشعبوية والروايات المتداولة، ليصفي حكاية السفاح من كافة البهارات الجماهيرية ويعبر عن جوهرها الممتزج برؤية الكاتب الخاصة لعصره في رواية «اللص والكلاب» التي أصدرها عام 1961، بعد عام واحد من مقتل سليمان، لتصير مع الزمن إحدى كلاسيكيات الأدب العربي.

وضع محفوظ يده على الفكرة الأعمق في حكاية السفاح: ما يريده الجميع منه، أو للدقة فيما يريدون توظيفه، فرسم نجيب شخصية بطله سعيد مهران، الشاب الفقير الذي يرتكب أول سرقة بدافع الحاجة، ليلتقفه المثقف المتطلع رؤوف علوان ويجعل من هدف سعيد البيولوجي البحت (السرقة من أجل الطعام) معركة أيديولوجية، ويقنعه أن ارتكابه الجرائم فعل بطولي ينتقم به من المجتمع الطبقي الذي قُدر له أن يولد أسفل سلمه. ألا يذكرنا هذا بعض الشيء بما فعله المثقفون من أسطرة السفاح الحقيقي ورسمه في صورة «روبن هود» المصري؟

سعيد مهران - نجيب محفوظ
نجيب محفوظ / Wikimedia Commons

خيانة الإعلام والمثقف 

تنهار صورة رؤوف المثالية لدى سعيد مهران عندما يخرج من سجنه ليصطدم بحقيقة كونه مرحلة وانتهت، منديل ورقي استخدمه المثقف لقضاء حاجة ثم ألقاه للأبد خارج حياته الجديدة كأحد السادة. وبينما تنطلق رغبة سعيد مهران في الانتقام من زوجته نبوية وتابعه الخائن عليش من تصورات شعبية عن قيم الكرامة والشرف (تصورات ساهمت في رؤية العامة له كبطل شريف يطارده القانون)، فإن تحرّقه للانتقام من رؤوف هو انتقام من خيانة المثقف للفقير الذي آمن به فاكتشف أنه مجرد مطيّة.

أما الجماعة الثالثة (بخلاف المثقف والعامة) فهي الإعلام، الصحف التي وجدت في حكاية سعيد مهران (وهي في النهاية مجرد جريمة قتل تحدث كل يوم في كل مكان) مادة خامًا للإثارة وارتفاع المبيعات والانتقام الشخصي بطبيعة الحال في حالة رؤوف علوان. 

ذلك التلاعب بمصائر البشر وتوجيه الرأي العام ليحكم بالإدانة أو البراءة على شخص لم يمثُل أمام القانون بعد، كان أشبه برؤية مستقبلية من نجيب محفوظ، لم تُبشر فقط بكافة المعالجات الدرامية للرواية والتي انشغل معظمها بهذا الخط تحديدًا، وإنما تنبأت حرفيًا بواقعنا اليومي في زمننا هذا. 

أليست قضية سعيد مهران أشبه بما نُطلق عليه اليوم «ترند Trend»؟ الحدث الذي ترتفع قيمته لحظيًا -تلقائيًا أو بفعل فاعل- فيشغل الرأي العام ويتحدث الجميع عنه بلا انقطاع حتى يقضي الجميع وطرهم منه فينسى في ثوان ويصعد ترند آخر للصدارة؟

غلاف فلم «اللص والكلاب» للمخرج كمال الشيخ

الترند على طريقة الستينيات

لا دليل أوضح على هذه الفكرة من سرعة معالجتها في الوسائط الإبداعية/ الإعلامية المختلفة؛ فقد لقى محمود أمين سليمان مصرعه عام 1960، ونشر نجيب محفوظ روايته عام 1961، ثم حولها المخرج كمال الشيخ فلمًا سينمائيًا ناجحًا عام 1962. أي في ظرف عامين عولجت القصة بوسيطين إبداعيين جماهيريين، ناهيك بالطبع عن متابعة الصحافة اليومية الكثيفة لها. 

إن لم يكن هذا هو الترند فماذا يكون؟ ولاحظ هنا أننا نتحدث عن مطلع الستينيات، حين كان إيقاع الحياة وسرعة تواتر القضايا كافيًا بأن تظل الفكرة حية وجماهيرية لعامين، لا لأيام أو ساعات كما يحدث اليوم.

الفلم جوهرًا للرواية

قدم الفلم (سيناريو كمال الشيخ وصبري عزت، وحوار صبري عزت) معالجة هي الأكثر التزامًا بالرواية. صحيح أن الفلم يستهلك حوالي نصف الساعة في سرد بدايات سعيد مهران لحين خروجه من السجن (النقطة التي تنطلق منها الرواية)، لكن هذه البدايات موجودة بالفعل في الرواية على شاكلة ذكريات تتداعى داخل ذهن البطل. ليكون «اللص والكلاب» نسخة كمال الشيخ أحد الأفلام القليلة التي استحقت حمل اسم رواية محفوظ الذي لطالما استهلكت السينما المصرية كتاباته في أفلام رديئة لا تأخذ من الرواية سوى الخط العام أو بعض التفاصيل دون النفاذ لجوهرها.

تمسك كمال الشيخ بهذا الجوهر، فصاغ نسخة سينمائية من الرواية وصب جل تركيزه الإبداعي على معالجتها بصريًا، لينجح مع مدير التصوير كمال كريم في استخدام النور والظلال بصورة تعد إنجازًا بمعايير زمنها. حيث خلقت الظلال طيلة زمن الفلم إيهامًا بالحصار ووجود سعيد مهران وراء قضبان افتراضية سواء داخل السجن أو خارجه.

شكري سرحان وشادية في فلم «اللص والكلاب»

ليتعامل الفلم إجمالًا مع حكاية البطل الضد من مدخلها الوجودي، فيجعل من الصراع الخارجي (الخيانة والرغبة في الانتقام والمطاردة وصولًا للموت) غلافًا لرحلة داخلية أعمق تكاد تُماثل رحلة آدم على الأرض: البشري الموصوم بالخطيئة والذي يكتشف أن مبررات البطولة والثورية وقت ارتكابه الجرائم كانت محض كذب، ويرى نفسه على حقيقتها، مجرد لص محاط بالكلاب، كلاب خانته وأخرى تطارده سعيًا لمصرعه.

جعل الالتزام بالرواية المحفوظية وطابعها الفلسفي حضور الإعلام في الفلم يكاد يقتصر على جريدة رؤوف علوان الذي يُشهر بسعيد بدوافع الانتقام الشخصي، مع الإشارة لتحول القضية حدثًا يشغل الرأي العام ويتابع الجميع أخباره ويذكرونه في مجالسهم. وبقي البعد الخاص بتعامل وسائل الإعلام مع القضايا الساخنة كنزًا دراميًا متاحًا في حاجة لمن يكتشفه، وهو الأمر الذي احتاج محاولتين إضافيتين، حققت الثانية فيهما نجاحًا أكبر من الأولى. 

ليل وخونة

جاءت ثاني محاولات التعرض لرواية محفوظ على شاشة السينما عام 1990 بعنوان «ليل وخونة» على يد أشرف فهمي، أحد المخرجين غزيري الإنتاج والذي تجاوز عدد أفلامه الأربعين وتباينت بين أعمال رفيعة المستوى وأخرى شديدة التواضع، والذي سبق وقدّم فلمًا مأخوذًا عن أعمال محفوظ هو «الشيطان يعظ» عام 1981. استعان فهمي بسيناريو أحمد صالح وفريق من النجوم منهم نور الشريف ومحمود ياسين وصلاح السعدني وصفية العمري ليحاول تقديم معالجة معاصرة للحكاية، يحافظ فيها على وجود جميع شخصيات الرواية بوصفها (اللص والمثقف والزوجة والتابع والابنة والعاهرة)، مع إجراء تعديلات موسعة في تفاصيلها بهدف تقديم عمل يتناول أبرز قضايا العصر.

فلم للنسيان 

أتى «ليل وخونة» متخمًا بالعناوين الكبيرة: عصر الانفتاح وصعود أبناء الطبقات الدنيا لقمّة المجتمع، شركات توظيف الأموال الإسلامية وكشوف البركة التي تضمنت رشاوى مُقنعة مُنحت لكبار رجال الدولة ليغضوا أبصارهم عن النصب على البسطاء باسم الدين، إلصاق تهمة التطرف بمن يراد وصمه مجتمعيًا، وبالطبع دور الصحافة في تشويه صورة البعض.

لا يحتاج المرء للكثير من الحنكة كي يلاحظ أن هذا القدر من القضايا أكبر بعض الشيء مما يمكن تناوله في فيلم واحد بشكل مُشبِع، لا سيما إن كان هذا الفلم ملتزمًا بأساس درامي وتشابك شخصيات وحكاية تحمل داخلها محتوى إنسانيًّا يجب أن يُعبّر هو الآخر عن نفسه.

كانت النتيجة عملًا مفككًا لا يستثمر الوقت أو الجهد الكافيين للتعمق في شخصياته، ولا يمنح للمشاهد الفرصة في فهم دوافع وتكوين بطل الحكاية (الذي تغير اسمه من سعيد مهران إلى صلاح). حكاية صاخبة تقفز من حدث لآخر وقضية لقضية دون النفاذ إلى فكرة ملهمة واحدة من أفكار عديدة تحملها وتحتملها الرواية. 

وبرغم ورود بعض الأفكار البراقة، كتغطية البطل بعد مقتله بأوراق الصحف التي تاجرت به وشوّهت صورته، فإن النتيجة إجمالًا كانت فيلمًا للنسيان، عُرض في الوقت الذي انهمك فيه موهوب آخر بتصور معالجة ثالثة قد تكون هي الأكمل والأنضج للرواية الشهيرة.

أحمد زكي في دور منتصر، فلم «الهروب»

الهروب، معالجة غير معلنة وجدل مستمر

الفلم هو «الهروب» للمخرج عاطف الطيب. فلمٌ دائمًا ما يُثار لغطٌ خافتٌ داخل صناعة السينما المصرية حول اسم مؤلفه. فبينما تحمل التترات اسم مصطفى محرم كاتبًا للسيناريو، يُصمم كثيرٌ من معاصري صناعة الفيلم أن النص قد تعرض لتعديلات جذرية تصل لإعادة الكتابة على يد بشير الديك. 

الأمر شائك بطبيعة الحال باعتبارهما -محرم والديك- من كبار مؤلفي المرحلة، بل ومؤلفي السينما المصرية بشكل عام. ورغم ذلك يظل الفلم في حال نسبه إلى أحدهما ضمن الأفضل في مسيرته، بل وتميل آراءٌ لاعتباره الأفضل على الإطلاق، كمجلة «قود نيوز سينما» التي نظمت استفتاءً موسعًا بين نقادها عام 2005، أسفر عن اختيار «الهروب» كأفضل فيلم في تاريخ السينما المصرية. الاختيار الذي ترك صدى واسعًا وأثار وقت إعلانه جدلًا بين مؤيد ومعترض.

إلا أنه، وفي خضم الجدل حول اسم المؤلف تارة وأحقية الفلم بأن يكون الأفضل تارة أخرى، يغفل غالبية المتابعين التأثر الواضح بـ«اللص والكلاب». ولسنا نبالغ إن  قلنا بأن «الهروب» أقرب وأكثر إخلاصًا للرواية من المعالجة المعلنة في «ليل وخونة». 

في هذا الفلم، يُودع البطل منتصر (أحمد زكي في أحد أفضل أدواره) السجن بعد خلاف مع شريكه على خلفية تلاعبه بالجوازات المزورة لتسفير العمال. فيخرج وقد صار الشريك رجل أعمال ثري، ويجد زوجته التي  صارت عاهرة للطبقات الراقية قد غادرت البلد. فيقرر الانتقام مسقطًا بلا نيّة  ضحايا لم يقصدهم ولتصير أفعاله بغتة قضية الساعة التي يتابعها الإعلام ويلتف حولها الجميع.

صناعة البطل الشعبي

يبرع فلم عاطف الطيب فيما فشل فيه «ليل وخونة»، فيوزع أفكاره الدرامية في البداية بحيث نشعر أن الفلم يطرح عدة أمور بالتوازي، ثم يمزجها في نسيج درامي نكتشف معه أن كل هذه الأفكار مترابطة تحمل فكرة واضحة، فكرة تراثية عابرة للأزمان بمعالجة عصرية. 

الفكرة مجددًا هي آلية صنع  البطل الشعبي، الشاطر المغامر الخارج عن القانون، الملتزم رغم أفعاله بكود أخلاقي يثمنه العامة الميالون بطبيعتهم للتشكيك في الرواية الرسمية. فيميلون لصفه ويتعاطفون معه ويدعمونه قدر الإمكان وهم يعلمون أن مصيره قد تحدد سلفًا. أن يذهب جسده ليغدو رمزًا. فكيف لفارس وحيد أن يقف في وجه آلة النظام المهيمنة؟

لاحظ تكوين شخصية منتصر: نصاب يرفض ممارسة أفعاله على أهل بلدته، ومنضبط أخلاقيًا، غيور على امرأته، مستعد لغسل عارها بيديه إن سقطت، صعيدي صلب المراس لا ينسى الإهانة ولا يتهاون في الثأر. يُسقط ضحايا عن غير قصد، لكن ضحاياه في النهاية مجموعة مجرمين الذين لم يخسر المجتمع كثيرًا بموتهم، قوّادة وأفّاق. 

منتصر إذن هو النسخة الأكثر مثالية عن سعيد مهران. رجل بسيط أراد التلاعب بالقانون -كآلاف غيره- كي يكسب رزقه، فعمدته التجربة رغم أنفه بطلًا لسيرة شعبية.

آلة النظام 

الجانب الآخر في «الهروب» هو -على النقيض- النسخة الأكثر إجرامًا من محيط سعيد مهران. يحيط بمنتصر مجرمون لا يكلفون أنفسهم حتى عبء وضع إطار أيديولوجي لأفعالهم. وتفصل بين الجميع سلطة فاسدة، تتحكم في مصائر البشر وفق أغراضها. 

تظهر الشرطة هنا في صورة عدو مطلق، متعدد الأذرع، يطارد منتصر ويتحكم في الإعلام لجعل قضيته عصا موسى التي تأكل قضايا أخطر وأكثر التصاقًا بقوت البسطاء. وبدلًا من وضع الأمر في سياقه الحقيقي، لمجرم صغير يرتكب جريمة تحدث يوميًا، يتم دفعه دفعًا ليصير موضوع الساعة (الترند مجددًا). 

بل تصل الأمور إلى تسهيل الهرب على منتصر بعد إلقاء القبض عليه، ليفر الرجل دون أن يعلم أنه يستجير من الرمضاء بالنار، وأن كل شيء مخطط، وهو كالفأر الذي يتسلى البشر بمشاهدته يعدو يائسًا داخل المصيدة وقد تحدد مصيره سلفًا.

مشهد من فلم «الهروب»

الهروب، معالجة عصرية خارج حدود الزمن

وبعيدًا عن إتقان عاطف الطيب الذي يبلغ ذروته في هذا الفلم، لا سيما في دفع فكرة البطل للصدارة عبر الخيارات البصرية (وضع منتصر كثيرًا في وسط دائرة محاطًا بالبشر) أو السردية (ربط حكايته بحياة الصقر المحلق الذي لا ينزل الأرض إلا ليموت) أو الصوتية (توظيف حداء أو تنويحة صياد الصقور، اللحن الشعبي الآتي من محافظة سوهاج مسقط رأس الطيب)، فإن قيمة «الهروب» الفكرية تنبع من قدرته على مد الخطوط على استقامتها، من استيعاب حكاية السفاح محمود أمين سليمان وأبعاد عالم 1960، ثم تقديمها في نسخة ملائمة للعام 1991.

عالم «الهروب» مقارنة بعالم «اللص والكلاب» أكثر قسوة. لا يمثل البشر فيه إلا أرقامًا، ولا ترى السلطات فيهم سوى قطعٍ على طاولة لعب، يتم تحريكها بحرية لتهييج الرأي العام تارة وتهدئته تارة. والناس في الحالتين يتابعون ويتفاعلون ويعتقدون أنهم أصحاب القرار، بينما هم في واقع الأمر لا يفعلون إلا ما خطط لهم.

هذا مطلع التسعينيات، أما اليوم فالأمر صار أعقد وأكثر خطورة، وتحريك الرأي العام لم يعد مسؤولية صحف نعرف هوية ناشرها وكاتبها والمشرف عليها، وإنما بات يحدث من خلال البشر أنفسهم. كل منهم ينتقل يوميًا من موضوع لآخر، من ترند لآخر، ليساهم بانخراطه الكامل كل مرة في أمر لم يكن يشغله قبل ساعات. في أن نصير كلنا جزءً من لعبة لم نخترها، لعبة تحدد نتائجها حياتنا ومستقبلنا. لعبة كانت مطاردة السفاح الدموية وكتابات محفوظ الرؤيوية لا تعدو بالنسبة لها أكثر من إرهاصات بريئة.

الأدبالإعلامالسينماجرائمالثقافة
المقالات العامة
المقالات العامة
منثمانيةثمانية